المجيب د. سعد بن عبد الله الحميد
أستاذ الدراسات العليا بجامعة الملك سعود
أصول الفقه / الأحكام وأدلتها/أدلة الأحكام
التاريخ 20/7/1424هـ
السؤال
عندما يدخل أحدهم المجلس والناس جالسون، ويراهم كل أسبوع تقريباً، هل من السنة أن يسلِّم لفظاً وإشارة بدون مصافحة ويجلس حيث انتهى به المجلس (للحديث الوارد) ، أم يصافحهم فرداً فرداً ثم يجلس ويأخذ الفضل الوارد في الحديث "تحاتت ذنوبهما"؟ أرجو التفصيل؛ لأن عندي درساً عن السلام سوف ألقيه على بعض طلبة العلم، وما المراجع التي ترونها مناسبة للبحث في هذه المسألة تفصيلاً؟.
الجواب
هذه المسألة من المسائل التي طال الخلاف فيها بسب ورود بعض أحاديث النهي عن ذلك، وبعض الأحاديث التي يفهم منها الإباحة، ولم يخرّج صاحبا الصحيح شيئاً من أحاديث النهي، وبوّب البخاري في صحيحه (11/49) بقوله: "باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-:" قوموا إلى سيدكم"، قال الحافظ ابن حجر:" هذه الترجمة معقودة لحكم قيام القاعد للداخل، ولم يجزم فيها بحكم؛ للاختلاف، بل اقتصر على لفظ الخبر كعادته" أ. هـ.
وقد ورد في النهي حديث معاوية -رضي الله عنه-، يرويه عنه أبو مجلز حميد بن لاحق قال: خرج معاوية على ابن الزبير وابن عامر، فقام ابن عامر، وجلس ابن الزبير، فقال معاوية لابن عامر: اجلس فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من أحب أن يمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار"، أخرجه أبو داود (5229) ، والترمذي (2755) ، وقال: "هذا حديث حسن"، وصححه الشيخ الألباني.
وأخرج الترمذي (2754) من طريق عفان، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن أنس - رضي الله عنه - قال: "لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك".
قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه".
كما ورد في الإباحة قوله -صلى الله عليه وسلم- للأنصار: "قوموا إلى سيدكم" يعني: سعد بن معاذ - رضي الله عنه -، أخرجه البخاري (3043) ، ومسلم (1768) .
وفي حديث قصة توبة كعب بن مالك وصاحبيه -رضي الله عنهم-، وهي مخرجة في الصحيحين البخاري (4418) ، ومسلم (2769) ، وجاء في رواية مسلم لها قول كعب: "فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره".
وهناك أحاديث أخرى استدل بها من يرى الجواز غير هذه تجدها في كتاب النووي (الترخيص في القيام) ، وفي (تفسير القرطبي 9/265، و19/256) ، و (تفسير ابن كثير 4/326) ، ومن أحسن ما يمكنك الرجوع إليه كلام الحافظ ابن حجر في (فتح الباري 11/49-54) ، فإنه أطال جداً في هذه المسألة، ونقل عن ابن رشد أن القيام يقع على أربعة أوجه:
الأول: محظور، وهو أن يقع لمن يريد أن يقام له تكبُّراً وتعاظماً على القائمين عليه.
الثاني: مكروه، وهو أن يقع لمن لا يتكبر ولا يتعاظم على القائمين، ولكن يخشى أن يدخل نفسه بسبب ذلك ما يحذر، ولما فيه من التشبه بالجبابرة.
الثالث: جائز، وهو أن يقع على سبيل البر والإكرام لمن لا يريد ذلك، ويؤمن معه التشبه بالجبابرة.
الرابع: مندوب، وهو أن يقوم لمن قدم من سفر فرحاً بقدومه ليسلِّم عليه، أو إلى من تجددت له نعمة فيهنِّئه بحصولها، أو مصيبة فيعزيه بسببها أ. هـ.
ولعل من أقوى ما يستدل به مما يؤيد أحاديث النهي: ما أخرجه مسلم في صحيحه (413) من حديث جابر - رضي الله عنه - في قصة مرضه -صلى الله عليه وسلم-، وصلاته وهو قاعد، والصحابة -رضي الله عنهم- قيام، فلما سلّم قال: "إن كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا".
وهو أيضاً مما يؤيد قول من جعل القيام المحرّم ما أشبه قيام الأعاجم، والقيام للسلام على الداخل لا يشبه ذلك القيام.
وبكل حال: فلعل من أحسن ما يخرج من الخلاف، ولا يوقع شيئاً في نفس الداخل: إلقاء السلام على الجالسين، والجلوس حيث انتهى به المجلس، أو في فرجة يجدها، دون القيام على مصافحة الحضور، مما يضطرهم للقيام له ولغيره، فيلحق من المشقة ما لا يخفى، وبالأخص إذا تقاربت مدة دخولهم، وإن جلسوا أو بعضهم ربما أوقع ذلك في النفوس شيئاً من الدغل، والله أعلم.