النسخ في القرآن الكريم

المجيب أ. د. سعود بن عبد الله الفنيسان

عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً

أصول الفقه / الأحكام وأدلتها/أدلة الأحكام

التاريخ 7/9/1422

السؤال

أرجو التكرم بالإجابة بالتفصيل عن موضوع الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم؛ لأنه يوجد من يدعي أنه لا نسخ في القرآن، وأن من يقول ذلك يعد كافراً، مع العلم أن هذا الأمر مذكور في الصحيحين، فضلاً عن كتاب الله العزيز وفي أكثر من موضع، ولكنه الجدل الذي لا دليل معه.

الجواب

أجيب عن السؤال بخمس نقاط على الإيجاز والاختصار، فأقول:

الأولى: المعنى اللغوي للنسخ: النسخ في اللغة مصدر للفعل الثلاثي نسخ ينسخ نسخاً، ويطلق في اللغة على معانٍ أربع، هي:

(1) الإزالة تقول: نسخت الشمس الظل إذا أزالته، ومنه قوله - تعالى -:".. فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته ". [الحج: 52] .

(2) التبديل والتغيير كقولك: نسخت الريح آثار الديار أي: بدلتها وغيرت هيئتها، ومنه قوله - تعالى -: " وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر " [النحل:101] .

(3) التحويل كالمناسخات في المواريث، وهو: أن يموت الميت، ثم يموت وارثه قبل أن تقسم تركة الميت الأول، وهكذا.

(4) بمعنى: النقل من موضع إلى آخر، تقول: نسخت الكتاب إذا نقلت ما فيه إلى موضع آخر من كتاب ونحوه حاكياً للفظه، ومنه قوله - تعالى -:" إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ". [الجاثية: 29] .

الثانية: أجمعت الأمة من السلف والخلف على جواز النسخ ووقوعه في القرآن الكريم بدليل قوله - تعالى -:" ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير " [البقرة: 106] ، وقوله:" يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " [الرعد: 39] ، وقوله: " وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعقلون " [النحل: 101] . فهذه الآيات نصت على أن الله إذا أراد نسخ حكم أو تأجيله أتى بحكم مثله أو أفضل منه؛ لأن علمه محيط بكل شيء في هذا الكون، ومسطور عنده في اللوح المحفوظ، ويمحو الله منه ما يشاء ويثبت ما يشاء ممّا فيه مصلحتهم، وهو العليم في إبداله آية مكان أخرى، وحكماً مكان آخر، وبهذا يتبين أن كل المعاني اللغوية في النسخ متحققة في معناه الشرعي، على أن السلف من الصحابة والتابعين أكثر ما يطلقون لفظ النسخ في القرآن يريدون به التخصيص وهو غير ما يريده أو عرفه به علماء الأصول، حيث هو عندهم: (رفع الحكم السابق بحكم لاحق بدليل شرعي متراخياً عنه) ، فالمعنى عند السلف حين فسروا النسخ بالتخصيص أوسع من تعريف المتأخرين، وقد بالغ بعض المفسرين في تعيين المنسوخ من آيات القرآن حتى عدوا جميع آيات الجهاد في القرآن وقالوا: نسختها آية واحدة هي آية السيف " وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة " [التوبة: 36] ، وقالوا: إن هذه الآية نسخت ما يقرب من (500) آية من القرآن، وهذه المبالغة في هذا التوجه إنما هو مسايرة للمفهوم الأول للنسخ، المعروف عند السلف من الصحابة والتابعين كعبد الله بن عباس، وابن عمر، ومجاهد، والحسن البصري، ولو طبق على كل هذا العدد من الآيات التي يقال إنها منسوخة. - الاصطلاح الثاني - اصطلاح المتأخرين من علماء أصول التفسير والفقه لا نحصر هذا إلى عدد رؤوس الأصابع، فمثلاً الإمام محمد بن جرير الطبري شيخ المفسرين يرى أن آيات الجهاد والقتال ليس فيها ناسخ ومنسوخ، بل تحمل آيات القتال والغزو على حال ما إذا كانت الأمة المسلمة قوية، وتحمل آيات الصبر والموادعة والمهادنة على ما إذا كانت الأمة ضعيفة مغلوبة على أمرها، وهذا رأي راشد وسديد، وعليه لا تكون آية السيف ناسخة لذلك العدد الكبير من آيات القتال.

وقد تتبع الحافظ بن جرير الطبري الآيات التي يمكن أن يقال إنها منسوخة فوجهها توجيهاً سديداً، وبقي عنده قرابة إحدى عشرة آية فقط هي منسوخة الحكم قطعاً لتغير الحكم اللاحق عن السابق بنص قطعي من القرآن الكريم، أو السنة الصحيحة، وهي معروفة عند أهل الاختصاص في علوم القرآن.

وعلم الناسخ والمنسوخ من أهم علوم القرآن، روي عن علي بن أبي طالب أنه سمع واعظاً يعظ الناس، فقال له: أتعرف الناسخ من المنسوخ في القرآن؟ قال: لا، فقال له: لقد هلكت وأهلكت.

الثالثة: قال بمنع وقوع النسخ في القرآن قديماً اليهود - عليهم لعائن الله - وتبعهم أبو مسلم الأصبهاني المعتزلي (ت 459هـ) ، وبعض الكتاب المعاصرين كعبد الكريم الخطيب، وعبد المتعال الجبري، ووجه منع وقوعه في القرآن الكريم عند اليهود أن القول بالنسخ يعني القول بالبداء، وهو: الظهور بعد الخفاء، أما من جاء بعدهم فوجه منعه عندهم لئلا يأتي أحد فيغير حكم الله، ثم يقول: إن هذا كان منسوخاً، ودليل هؤلاء وأولئك في المنع ظاهر قوله - تعالى - في وصف القرآن:" لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد " [فصلت: 42] ، والباطل ضد الحق.

ولكن أولئك نسوا أن الله هو منزل القرآن وهو المتكفل بحفظه " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " [الحجر: 9] . كما نسوا أو تناسوا أن الحافظ لهذا الكتاب من أن يقع فيه باطل أو تحريف، هو الذي أوجد فيه الناسخ والمنسوخ لحكمة يعلمها- سبحانه -.

واليهود قد تذرعوا ظاهراً لما منعوا وقوع النسخ في كلام الله - بالبداء، وهو: الظهور بعد الخفاء، وتبعهم الرافضة الغلاة، ويروون عن جعفر الصادق أنه قال:" البداء ديني ودين أبائي "، ومتى كان اليهود يقصدون التنزيه للباري - سبحانه -، وهم الذين وصفوه بأحط الصفات - تعالى - الله عن ذلك علواً كبيراً، وقالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، وقالوا: عزير ابن الله، وقالوا: الملائكة بنات الله.. إلخ. وإنما كان قصد اليهود في مقالتهم تلك لما منعوا وقوع النسخ في كلام الله كتمان الحق، وكراهية أهله، وبغضاً لمحمد - صلى الله عليه وسلم - الذي يعرفونه حق المعرفة " الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ... " [الأعراف:157] .

أما إنكار أبي مسلم الأصبهاني المعتزلي (ومخالفته لجمهور المعتزلة أيضاً) ، وبعض الكتاب المعاصرين إنما كانت مخالفتهم لجهلهم باللغة العربية، وأقوال سلف الأمة، ومحبتهم للتجديد والمخالفة طلباً للشهرة واتباعاً لكل قول مطمور مهجور.

الرابعة: سبق أن ذكرت بأن التخصيص (النسخ عند السلف) أعم من النسخ عند المتأخرين؛ لأن التخصيص قد يكون بالتقييد بعد الإطلاق، أو بالتفصيل بعد الإجمال، أو بالوصف، أو الاستثناء.. إلخ، وهذا معلوم في مظانِّه وعند أهله المتخصصين به.

ويجب أن يعلم أن النسخ في القرآن لا يقع إلا في خطاب الأمر والنهي، ولا يقع في الأخبار، فلم يقع في قصص الماضين، ولا في أمور الاعتقاد؛ كالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ولا في أسماء الله وصفاته، كما لا يقع النسخ في الأمور الكونية كقوله:" الذي خلق سبع سموات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " [الملك: 3] . ونحو قوله:" وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون " [يس: 37] .

الخامسة: بعض الآيات المنسوخة حكماً عند جمهور الأمة من السلف والخلف:

1) نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة في المسجد الحرام.

2) عدة المرأة المتوفى عنها زوجها كانت عدتها من أول الأمر سنة كاملة، ثم نسخ ذلك فصارت أربعة أشهر وعشراً.

3) المصابرة في مقابلة العدو كان في أول الأمر يجب أن يثبت المسلم أمام عشرة من الكفار، ثم نسخ ذلك بأخف منه لما علم الله ضعف المسلمين، فلزم أن يثبت المسلم أمام اثنين من الكفار فقط.

4) كانت الخمر حلالاً في مثل آية البقرة، ثم نسخ ذلك بآية الخمر في سورة المائدة.

5) نسخ الصدقة عند إرادة مناجاة الرسول كما في سورة المجادلة.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015