ثانياً: بالنسبة لما نسب لشيخ الإسلام -رحمه الله- من كونه يقول بقدم العالم، فالقائلون لذلك إما كاذبون مفترون كبعض خصومه وأعدائه، وإما مخطئون متوهمون حملوا كلامه على غير مراده الصحيح، الذي إذا رُد مشتبهه إلى محكمه تبين وضوح منهج شيخ الإسلام -رحمه الله- وهذه المسألة من المسائل الكبيرة، وفيها مباحث جدلية طويلة ليس هذا الجواب مقام إيرادها والمقصود باختصار.
أن الذي كان يقوله -رحمه الله- هو مقتضى الأدلة من أن الله تعالى يفعل ما يشاء أزلاً وأبداً، وأن عموم مشيئته سبحانه وتعالى، وكونه فعالاً لما يريد، وكونه متصفاً بصفات الكمال الثابتة له، اللائقة بكماله سبحانه وتعالى، وبالتالي إمكان جواز -وليس وجوب- وجود حوادث ومخلوقات قديمة أزلية، وإلا فأي معنى لكونه خالقاً قادراً متى شاء وكيف شاء، ثم نعطل الصفة عن الفعل، والذين نفوا ذلك هم نفاة الصفات الفعلية الاختيارية من المعتزلة والأشاعرة، ومع ذلك فهم متناقضون، حيث يمنعون إمكانية وجود حوادث لا أول لها في طرف الماضي، ويجيزون إمكانها في المستقبل، وشيخ الإسلام -رحمه الله- يرد عليهم في أكثر من موضع بأنه لا فرق بينهما، ثم هو يؤكد -رحمه الله- أن هذا القول لا يعني ولا يستلزم بوجه من الوجوه القول بقدم العالم وأزليته، بل هو يفرق في عامة كتبه بين قضيتين رئيسيتين في الموضوع، هما النوع والآحاد، ويرى أهمية التفريق بين دوام النوع وحدوث الأفراد والأعيان، وأن التفريق بينهما هو الذي نطق به الكتاب والسنة والآثار، وأن الرب -تعالى- أوجد كل حادث بعد أن لم يكن موجداً له، وأن كل ما سواه فهو حادث بعد أن لم يكن حادثاً، وذكر -رحمه الله- أن أهل الحديث ومن وافقهم لا يجعلون النوع حادثاً بل قديماً، ويفرقون بين حدوث النوع وحدوث الفرد من أفراده، كما يفرق جمهور العقلاء بين دوام النوع ودوام الواحد من أعيانه، فإن نعيم الجنة يدوم نوعه ولا يدوم كل واحد من الأعيان الفانية فيه.