أخي الكريم: سيرة النبي الكريم صفحة مشرقة للفضائل، ولو رحت تلتمس موقفه - صلى الله عليه وسلم- ممن آذاه لرأيت عجباً، فهو -صلى الله عليه وسلم- يكاد يقتل نفسه من الغم حين يرى إعراضهم عن الهدى والحق، رغم خلو ساحته من المسؤولية بالتبليغ، حتى أشفق عليه ربه -عز وجل- فقال: "فلا تذهب نفسك عليهم حسرات" [فاطر:8] وحين نصره الله عليهم، بعد حروب طويلة، حرصوا في كل واحدة منها على قتله، نراهم -كما ورد في السيرة، وليس له إسناد ثابت- يقفون بِذِلَّةٍ بين يديه، وهو يسألهم: "ما تظنون أني فاعل بكم؟ "، ولأنهم يدركون تأصّل التسامح في قلبه، وتجرده من حظوظ نفسه لمبدئه ودينه، قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم!!، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أقول كما قال أخي يوسف: "لا تثريب عليكم اليوم"، اذهبوا فأنتم الطلقاء!! ".
وحين نتأمل في كلمة: (لا تثريب عليكم) نجدها اختيرت بعناية، لتتناسب مع النفس الكريمة الكبيرة، فهي تحمل معاني تدور حول: (أي لا تأنيب عليكم، ولا عتب عليكم اليوم، ولا أعيد عليكم ذنبكم في حقي بعد اليوم) [تفسير ابن كثير (2/642) ] !!
إنه طيٌّ كامل لصفحة، وفتح لصفحة أخرى جديدة، إنه وعد بنسيان (تام) لكل ما جرى من أمور (سلبية) تشعرهم بمجرد (الخجل) منه!.. وصفحة حياته العطرة - صلى الله عليه وسلم - مليئة بسطور العفو والصفح، خاصة وقد أكد هذا المعنى عنده ربه -عز وجل- في وصيته له: (فاصفح الصفح الجميل) [الحجر:85] ، أي: (فأعرضْ عنهم إعراضا جميلا، ولا تعجل عليهم، وعاملهم معاملة الصفوح الحليم) [فتح القدير للشوكاني (3/201) ] .
والصفح الجميل: (هو - كما قال عليٌّ وابن عباس - رضي الله عنهما-: الرضا بغير عتاب) [الدر المنثور في التفسير بالمأثور (5/94) ] .
أخي الكريم: لعل من الوسائل العملية التي يمكن أن تساعد في التخلص من الغل والحقد ما يلي:
(1) أهمية استشعار أن الإنسان لا يبلغ حقيقة الإيمان حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، كما أخبر بذلك المصطفى - صلى الله عليه وسلم-: (ولا يتم ذلك إلا بترك الحسد والغل والحقد والغش وكلها خصال مذمومة) [فتح الباري (1/58] .
(2) استشعار الإنسان أن تخلصه من الغل والحقد يمنحه راحة نفسية كبيرة؛ عاجلة وآجلة، (وقد أثنى الله تعالى على خليله إبراهيم - عليه السلام - بسلامة القلب، فقال: (وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم) ، وقال -حاكياً عنه- أنه قال: (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) ، والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرياسة، فسلم من كل آفة تبعده من الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده، وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله. فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا وفي جنة في البرزخ وفي جنة يوم المعاد) [الجواب الكافي (84) ] .