F عطية صقر.
مايو 1997
Mالقرآن والسنة
Q هل الأفضل للمرأة أن تتزوج بعد موت زوجها أو تمتنع عن الزواج وفاء لزوجها أو لرعاية الأيتام؟
صلى الله عليه وسلمn المرأة إذا مات زوجها يقال لها أرملة ما دامت لم تتزوج بعد، والترمل فترة شديدة على المرأة، بل وعلى أهلها، فى قد فقدت زوجها الذى كان يعولها ويساعدها على الإحساس ببهجة الحياة، وقد تستمر على هذه الحال فلا يرغب أحد فى زواجها وبخاصة إذا كانت لها أطفال من الزوج الأول، وكذلك أهلها يحسون بالألم لمصيرها حيث لم تكتمل سعادتها فى المدة التى قدر لها أن تعيشها.
ولهذا الوضع المؤلم للأرملة مظاهر متعددة تختلف باختلاف الشعوب، ذكر الرحلة محمد ثابت فى كتبه شيئا كثيرا منها ما رآها بنفسه أو نقلها عن كتب الرحلات التى سبقت.
ففى بعض قبائل الهند كانت الزوجة أو الزوجات يحرقن أنفسهن مع الزوج حتى لا تصيبهن لعنة الترمل، كما يقضى بذلك الدين البرهمى، ويوجد أيضا فى شعوب (الأنكا) فى (بيرو) وفى جزر فيجى وبعض جهات الصين يمارس ذلك بخفية، على الرغم من تحريم القوانين له.
ومن لم تدفن نفسا مع زوجها تظل بائسة منبوذة أو تحاول الابتعاد عن الناس لأنها نذير شؤم فتلجأ إلى المعابد والرهبنة وهناك يحلق شعرها وتغطف بالسواد وتخدم رواد المعابد حتى تموت، ويطلق عليها الآن فى بعض البلاد (الغولة) ، والهندوس يعدون ترمل المرأة كفارة لما ارتكبته فلا يحل لها الزواج ثانيا، وقد حارب غاندى ذلك وبخاصة فى الأرامل الصغار، لأن الزواج عندهم مبكر جدا.
إن الإسلام لا يفرض على الأرملة إلا الاحتداد بالابتعاد عن الزينة وبعدم الزواج فترة محدودة تسمى بالعدة التى تنتهى بوضع الحمل أو انقصاء أربعة أشهر وعشرة أيام لغير الحامل. وبعد هذه الفترة تحل لها كل أنواع الزينة فى الحدود المشروعة كما يحل لها أن تتزوج.
غير أن بعض الزوجات لا ترغب فى الزواج ثانيا وذلك لبعض العوامل التى منها:
1 - امتداد النظرة القديمة التى كانت عند عرب الجاهلية فى معايرة الولد بزواج أمه بعد وفاة أبيه، حيث كان يعيش من المهر الذى دفعه له زوج أمه، ويأنف أن يرى رجلا أجنبيا ينام مكان والده.
2 - وجود أيتام صغار تعكف على تربيتهم خشية أن يضيعوا إن تزوجت.
3-شدة حبها لزوجها الأول فلا ترضى بغيره بديلا.
4 -وجود عهد بينها وبين زوجها ألا تتزوج بعده.
ومن الأمثلة لذلك: الرباب بنت امرئ القيس زوجة الحسين ابن على رضى الله عنهما، التى قالت: ما كنت لأتخذ حما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم (أبو الشهداء الحسين بن على للعقاد ص 54) ونائلة بنت الفرافصة بن الأحوص زوجة عثمان بن عفان رضى الله عنه، خطبها معاوية بن أبى سفيان فأبت، وقيل: إنها قالت بعد مقتل عثمان: إنى رأيت الحب يبلى كما يبلى الثوب، وقد خشيت أن يبلى حزن عثمان من قلبى، فكسرت بعض أسنانها بحجر وقالت: والله لا قعد أحد منى مقعد عثمان أبدا (العقد الفريد لابن عبد ربه الطبعة الأولى ج 3 ص 194) وأم هانى بنت أبى طالب خطبها النبى صلى الله عليه وسلم فاعتذرت له بأن لها أيتاما إن قامت بحق النبى عليها خافت أن يضيعوا وإن قامت بحقهم خافت التقصير فى حق النبى عليها (مسلم بشرح النووى ج 16 ص 80، العقد الفريد ج 3 ص 194) وامرأة هُدْبة بن الخشرم الذى قال لها:
فلا تنكحى إن فرق الدهر بيننا * أغَمَّ القفا والوجه ليس بأنزعا فلما قدم للقتل فى ثأر غابت عن الناس وجدعت أنفها وشقت شفتيها ثم قالت له: أترانى متزوجة بعدما ترى؟ (محاضرات الأدباء ج 2 ص 98 والمستطرف ج 1 ص 165) وهجيمة بنت حى الأوصابية أم الدرداء الصغرى، خطبها معاوية بن أبى سفيان فأبت وقالت:
سمعت أبا الدرداء يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المرأة لآخر أزواجها" ولست أريد بأبى الدرداء بديلا. وهو حديث صحيح، رواه الطبرانى وأبو يعلى، ولفظه " أيما امرأة توفى عنها زوجا فتزوجت فهى لآخر أزواجها " (المطالب العالية ج 2 ص 67 والجامع الصغير) والأمثلة كثيرة.
الحكم: من المعلوم أن الله سبحانه حرم على المسلمين أن يتزوجوا من زوجات النبى صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى {ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا، إن ذلكم كان عند الله عظيما} الأحزاب: 53، فهن زوجاته فى الدنيا والآخرة، وفى إيذائهن إيذاء له صلى االله عليه وسلم.
أما غيرهن، فإن كان هناك عهد بينها وبين زوجها ألا تتزوج بعده، فيجوز لها أن تمتنع عن الزواج إن لم تخف الفتنة على نفسها بل يستحب إن كان هناك مبرر، فإن خافت الفتنة لا يجب عليها الالتزام بالعهد ولها أن تتزوج، وقد حدث أن النبى صلى الله عليه وسلم خطب (أم مبشر) .
فقالت له: إن زوجى شرطت له ألا أتزوج بعده، فقال لها " إن هذا لا يصلح " (زاد الميعاد ج 4 ص 209 والترغيب ج 3 ص 144) وذلك لأنه شرط ليس فى كتاب الله، وفيه تعطيل للنسل، وقد تزوج عمر بن عبد العزيز من أم هشام بنت عبد الله بن عمر التى حلفت لزوجها عبد الرحمن بن سهيل بن عمرو ألا تتزوج بعده كما أوصاها بذلك وكان يحبها كثيرا (أعلام النساء لعمر كحالة) .
وإذا كان لها أيتام وخافت ضياعهم لو تزوجت كان لها أن تمتنع عن الزواج، بل يستحب لها ذلك فقد روى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة " وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى " امرأة أَيْمَتْ من زوجها ذات منصب وجمال وحبست نفسها على يتامى لها حتى بانوا أو ماتوا " يعنى حتى انفصلوا عنها واستغنوا عن كفالتها لهم أو حتى ماتوا. رواه أبو داود.
وقد قال صلى الله عليه وسلم لما أبدت له أم هانىء عذرها بوجود الأيتام " خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على طفل وأرعاه على زوج فى ذات يده" رواه مسلم (مسلم ج 16 ص 80) .
كما يجوز لها ألا تتزوج بعده لتكون زوجته فى الجنة كما تقدم عن أم الدرداء وكذلك فعلت زوجة حذيفة، لكن امتناع المرأة عن الزواج، لشدة حبها للزوج الأول قد يستساغ إذا كانت كبيرة فى السن آمنة على نفسها من الفتنة، لكن لو كانت شابة فخير لها أن تتزوج بعد خمود حرارة الحب، وهى لابد خامدة بطول الزمن، وبخاصة إذا خافت الفتنة على نفسها. وكان أبو سلمة حكيما حين أوصى زوجته أم سلمة أن تتزوج بعده، وكانت تريد ألا تتزوج معتقدة أنه لا يوجد مثل أبى سلمة، وقد وجدت أفضل منه وهو النبى صلى الله عليه وسلم.
إن الإسلام يساير الطبيعة البشرية فى إباحة زواج الأرملة، ويوافق المعقول فى تحقيق المصلحة العامة، وهو ما لجأت إليه الأمم الحديثة بعد أن عرفت صلاحيته.
وقد يحدث امتناع بعض كبريات النساء أن يتزوجن بعد وفاة أزواجهن ذوى المراكز المرموقة، تشبها بنساء النبى صلى الله عليه وسلم، وهو تشبه باطل، أو قياس مع الفارق كما يقال، ولعله مأخوذ من المأثور عن بعض السلف من الامتناع عن تزوج نساء كبار الصحابة تعظيما لقدرهم، وذكرا لمآثرهم عليهم وعلى الإسلام، فهم يعدونهم كآبائهم، ولا يجوز نكاح ما نكح آباؤهم من النساء.
ومهما يكن من شىء فإن الظروف لها حكمها، وتمسك المرأة بدينها أو تهاونها فيه لابد أن يوخذ فى الاعتبار، والمهم كله أن نحافظ على شرف المرأة، وأن نقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة ما دام ذلك لا يتخطى حدود الشرع، وكل واحدة من النساء لها حكم يغاير حكم الأخرى، فلا يجوز أن يتخذ ذلك عرفا أو تقليدا عاما، فالطبيعة قوية والشرع حكيم، وضع مقاييس دقيقة للسلوك، وأحكاما عادلة لحل المشكلات، والخير كله فى اتباع هدى الله، كما قال تعالى {فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى} طه:
123، وقال {وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين} النور:
54.
هذا، وقد جدت أوضاع لم تكن معروفة من قبل، وهى المعاشات التى تقررها الحكومة للأرامل، وتشترط لها عدم زواجهن، ولحرص الأرملة على المعاش، ولتلبية نداء الغريزة قد تنحرف بدون الارتباط بالزواج، وفى ذلك خطورة بالغة لا يشك فيها أحد ولا يقرها دين، وقد تلجأ إلى ما يسمى بالزواج العرفى، وهو إن كان غير مستوف لأركانه وشروطه فهو الانحراف بعينه، وإن استوفى ذلك شفويا دون تسجيل رسمى، كانت المعاشرة مشروعة وعدم تسجيله يضمن لها بقاء المعاش حسب القوانين الوضعية، لكن ذلك يترتب عالجه أضرار، منها:
1 -تعريض حق الأولاد الذى نتجوا عن هذا الزواج للضياع، وذلك لعدم تسجيلهم فى الأوراق الرسمية، فلا يلزم أبوهم بالانفاق عليهم، ولا تضمن لهم حقوقهم فى التعليم وما إلى ذلك.
2 -تعريض حقها للضياع عند وفاة هذا الزوج إن كان له ميراث، وكذلك ضياع حق أولاده، وحقه هو أيضا إن ماتت وتركت ميراثا.
3-الاستيلاء على المعاش بدون حق، لأنه لغير المتزوجة، فهو سرقة من الحكومة، وأخذ مال كان أولى به مشروعات أخرى.
وكل هذه الأضرار ممنوعة شرعا، والزواج العرفى الذى يؤدى إلى الممنوع فهو ممنوع، ولهذا يجب تسجيله لأن المعاش المقرر لها سينتقل حقا واجبا على الزوج كنفقة بعد سقوطه بالزواج، فهى لن تتضرر، وكذلك أولادها الذين فى كفالتها وتحت رعايتها معاشهم لا يسقط. والله يقول الحق وهو يهدى السبيل