F عطية صقر.
مايو 1997
Mالقرآن والسنة
Q فى البنوك الإسلامية نظام للاستثمار يطلق عليه اسم المضاربة، فما هى الصورة الحقيقية لهذه المعاملة وما وجه إباحتها؟
صلى الله عليه وسلمn المضاربة مأخوذة من الضرب فى الأرض وهو السفر للتجارة كما قالى تعالى {وآخرون يضربون فى الأرض يبتغون من فضل الله} المزمل: 20 ويطلق عليها اسم القراض، وهو مأخوذ من القرض أى القطع، لأن المالك يقطع جزءا من ماله للتجارة وقطعة من ربحه، وهى عقد بين طرفين، يدفع أحدهما نقدا إلى الآخر ليتجر فيه على أن يكون الربح بينهما بنسبة يتفقان عليها.
وهى معاملة جائزة بإجماع الفقهاء، وكانت موجودة قبل الإسلام حيث ضارب النبى صلى الله عليه وسلم لخديجة رضى الله عنها بمالها، وسافر به إلى الشام، ولما جاء الإسلام أقرها، يقول الحافظ ابن حجر: والذى نقطع به أنها كانت ثابتة فى عصر النبى صلى الله عليه وسلم يعلم بها وأقرها، ولولا ذلك ما جازت ألبتة.
ومن حوادثها أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب، رضى الله عنهم خرجا فى جيش العراق، فلما رجعا مرَّا على أبى موسى الأشعرى أمير البصرة فرحب بهما وأبدى استعداده لخدمتهما، فأعطاهما مالا من مال الله ليوصلاه إلى أمير المؤمنين فى المدينة وأرشدهما إلى استغلاله كسلفة يتجران فيها بشراء سلع من العراق وبيعها فى المدينة يستفيدان من الربح فيها فقبلا منه هذا العرض، وكتب إلى عمر أن يتسلم منهما المال الذى أرسله، فلما قدما وباعا وربحا، قال لهما عمر: أكلَّ الجيش قد أسلف كما أسلفكما؟ فقالا: لا، فقال عمر: أديا المال وربحه، فأما عبد الله فسكت وأما عبيد الله فقال: لو هلك المال ضمنَّاه، فأصر عمر على أن يؤدياه، وفى النهاية قال رجل لعمر: لو جعلته قراضا؟ يعنى لو عملت فيه بحكم المضاربة وجعلت لهما نصف الربح؟ فرضى عمر بذلك.
والإسلام أقر هذه المعاملة للحاجة إليها، فقد يكون هناك مالك لمال لا يحسن استغلاله فيعطيه رجلا لا مال له يحسن استغلاله، لتكون الثمرة بينهما، يفيد كل منهما وينشط الاقتصاد، ولا ينقص المال المعطل بإخراج زكاته كل عام، ويجد الفقير عملا حلالا لا يحول دون تعطله والتجائه إلى وسيلة للعيش قد تكون محرمة، كالتسول والسرقة، ففيها تعاون على الخير، واشترط الفقهاء لصحتها أن يكون رأس المال نقدا معلوما، وأن يكون الربح بين العامل وصاحب رأس المال معلوما بالنسبة لا بالقدر المعين، كالنصف والثلث والربع مثلا، وهذا ما عامل عليه النبى صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها، يقول ابن المنذر: اجمع كل من نحفظ عنه على إبطال القراض -المضاربة- إذا جعل أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة.
وقالوا فى تعليل ذلك: إنه لو اشتُرط قدر معين لأحدهما فربما لا يكون الربح إلا هذا القدر، فيستفيد به طرف دون الآخر، وهو مناف لحكمة المشروعية فى نفع كل من المتعاقدين.
وهناك شرط اختلف الفقهاء فيه وهو إطلاق النشاط وتقييده، فقال مالك والشافعى: لا يجوز تقييد المضاربة بالإتجار فى سلعة معينة أو فى بلد معين، أو فى زمن معين، أو مع شخص معين، لأن التقييد قد يضيع فرصا للربح، لكن أبا حنيفة وأحمد قالا: تصح المضاربة بالإطلاق والتقييد، وفى حالة التقييد لا يجوز للعامل المخالفة، وإلا ضمن، كما شرط حكيم بن حزام مع من يتاجرفى ماله: ألا يجعله فى كبدٍ رطبة أى حيوان ولا يحمله فى بحر، ولا ينزل به فى بطن مسيل، وإلا كان ضامنا لما يتلف منه.
والمفروض فى العامل أن يكون أمينا على المال، فلا يضمن إلا بالتعدى، فإذا تلف شىء منه فلا شىء عليه، ويصدق فى قوله مع اليمين إن ادعى ضياعه أو هلاكه.
ثم قال العلماء: لو أعطى العامل هذا المال أو بعضه لشخص آخر يضارب فيه كان متعديا ويكون ضامنا إن كان فيه خسران، وقال بعضهم: إن كان هناك ربح فهو لصاحب المال، وقال آخرون: الربح للمضارب ويتصدق به.
والعامل الذى يباشر النشاط تكون نفقته فى ماله هو إذا كان مقيما، أو سافر من أجل المضاربة ولا يتحملها صاحب المال، فقد تستغرق الربح كله، والعامل له نصيب فليكن تصرفه فى حدوده، لكن لو أذن رب المال له فى ذلك فلا مانع، فالمؤمنون عند شروطهم والعقد شريعة المتعاقدين.
هذا، وكما يجوز أن يكون المضارب العامل شخصا يجوز أن يكون جماعة أو هيئة أو مؤسسة تقوم بالنشاط التجارى الحلال لا الحرام، ولا تفرض لصاحب المال قدرا معينا بالنسبة لرأس ماله ولا تتحمل هى الخسارة، بل يتحملها رب المال ما دام لا يوجد تقصير منها، فلو ضمنت له قدرا معينا لا يتأثر بخسارتها هى ولا بمقدار ما تربحه بطلت المضاربة، ولو ضاربت هى فى هذا المال بإعطائه لغيرها ضمنت الخسارة، وإن كان هناك ربح فالربح كله لصاحب المال، ولها فى نشاطها أجر المثل، وإن كان أهل الرأى يقولون: إن الربح من حق هذه الجماعة وعليها أن تصرفه فى الخير ولا تتملكه.
ومن هنا يعلم أن البنوك والمؤسسات الأخرى التى تأخذ أموالا من الناس لقاء فائدة محددة بالنسبة لرأس المال لا يصدق عليها أنها تتعامل بنظام المضاربة لأمرين هامين، هما تحديد الربح وتحمل الخسارة، ونظام البنوك يمنع أى نشاط تحتمل فيه الخسارة. ولو قيل إنها وكيلة أو نائبة عن أصحاب الأموال، فإن كل ربح أو خسارة يكون لهم، ولهذه المؤسسات أجر الوكالة فقط، وهذا يتنافى مع الواقع فى نشاطهم الذى نصت القوانين على أن الأموال التى يتلقونها هى من باب القرض الذى يجب رده لصاحبه بعينه أو مثله، فإن شرطت عليه زيادة فهى ربا كما تقدم توضيحه فى ص 74- 82 س من المجلد الأول من هذه الفتاوى