F عطية صقر.
مايو 1997
Mالقرآن والسنة
Q اشتد الخلاف بين بعض من أهل العلم كانوا يعملون بالحجاز، في بيان الأفضل عند الله هل هو مكة أو المدينة، فهل من دليل يبين الحق فى ذلك؟
صلى الله عليه وسلمn إن المفاضلة بين شيئين تهمنا معرفتها إذا كنا سنستفيد منها فى ديننا أو دنيانا، وإلا كانت ضياعا للوقت والجهد نحن أحوج إليهما فى ظروفنا الحاضرة، والكتب القديمة تعرضت لذلك إما للترف الذهنى وإما للإِفادة فى العمل بناء على نصوص وردت، منها ما رواه أحمد وابن ماجه والترمذى وصححه عن عبد الله بن عَدِىِّ بن الحمراء أنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول وهو واقف بالحزوَّرة فى سوق مكة "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أنى أُخرجت منك ما خرجت" وروى مثله أو قريبا منه الترمذى عن ابن عباس، والحزورة بتشديد الواو المفتوحة أو بإسكان الزاى هى الرابية الصغيرة.
يقول الشوكانى " نيل الأوطار ج 5 ص 31" فيه دليل على أن مكة خير أرض الله على الإطلاق وأحبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك استدل من قال: إنها أفضل من المدينة، قال القاضى عياض، إن موضع قبره صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض، وإن مكة والمدينة أفضل بقاع الأرض، واختلقوا فى أفضلهما ما عدا موضع قبره صلى الله عليه وسلم. فقال أهل مكة والكوفة والشافعى وابن وهب وابن حبيب المالكيان، إن مكة أفضل، وإليه مال الجمهور، وذهب عمر وبعض الصحابة ومالك وأكثر المدنيين إلى أن المدينة أفضل.
ودليل الأولين هو الحديث المذكور، ودليل الآخرين حديث البخارى "ما بين قبرى ومنبرى روضة من رياض الجنة " مع حديث "موضع سوط فى الجنة خير من الدنيا وما فيها " وليس المراد أن هذا المكان من الجنة فعلا وإنما المراد أن الصلاة فيه تؤدى إلى الجنة، وذلك كحديث "الجنة تحت ظلال السيوف" أى أن الجهاد يوصل إلى الجنة.
ومما يرجح قول الجمهور فى فضل مكة حديث رواه أحمد وابن خزيمة والطبرانى والبيهقى وابن حبان فى صحيحه " صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة فى المسجد الحرام أفضل من صلاة فى مسجدى بمائة صلاة" وقد روى من طريق خمسة عشر صحابيا، فأفضلية المسجد لأفضلية المحل الذى هو فيه.
هذا، ويعجبنى فى هذا المقام ما ختم به الشوكانى الكلام عن هذا الموضوع حيث قال: واعلم أن الاشتغال ببيان الفاضل من هذين الموضعين الشريفين كالاشتغال ببيان الأفضل من القرآن والنبى صلى الله عليه وسلم، والكل من فضول الكلام الذى لا تتعلق به فائدة غير الجدال والخصام، وقد أفضى النزاع فى ذلك وأشباهه إلى فتن وتلفيق حجج واهية، كاستدلال المهلب بن أبى صفرة على أفضلية المدينة بأنها هى التى أدخلت مكة وغيرها من القرى فى الإِسلام، فصار الجميع فى صحائف أهلها، وبأنها تنفى الخبث كما ثبت فى الحديث الصحيح، وأجيب عن الأول بأن أهل المدينة الذين فتحوا مكة معظمهم من أهل مكة، فالفضل ثابت للفريقين، ولا يلزم من ذلك تفضيل إحدى البقعتين، وعن الثانى بأن ذلك إنما هو فى خاصٍّ من الناس ومن الزمان، بدليل قوله تعالى {ومن أهل المدينة مَردوا على النفاق} التوبة: 101 والمنافق خبيث بلا شك، وقد خرج من المدينة بعد النبى صلى الله عليه وسلم معاذ وأبو عبيدة وابن مسعود وطائفة، ثم على وطلحة، والزبير وعمار وآخرون، وهم من أطيب الخلق، فدل ذلك على أن المراد بالحديث ناس دون ناس، ووقت دون وقت، على أنه إنما يدل ذلك على أنها فضيلة، لا أنها فاضلة. انتهى.
وأؤكد كما بدأت الإجابة على عدم الإغراق فى الجدال فى مثل هذه الأمور التى لا تعود بفائدة واضحة على الفرد والمجتمع، وبخاصة فى مثل الظروف التى يعيشها المسلمون الآن ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى "الزرقانى على المواهب ج 1 ص 328".
إن التمادى فى الخلاف حول تفضيل شخص على شخص وأولويته بالتكريم خلق فى الأمة الإسلامية جماعة كبيرة لها حكمها القاسى على الكثرة الكاثرة من المسلمين، وتتعايش معها كما يتعايش أهل الأديان التى قال الله فيها {وقالت اليهود ليست النصارى على شىء وقالت النصارى ليست اليهود على شىء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} البقرة: 113.
إن الماضى بما فيه من خلاف يجب أن ننساه ونتوحد لمواجهة التحديات التى تكتلت الأعداء لضرب المسلمين بها بكل الأسلحة التى لم يفطن إلى الكثير منها كثيرون من المتخالفين الذين يدعى كل فريق منهم أنه هو الناجى من النار لأنه فى رأيه يسير على ما كان النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
أرجو الله للأمة الإِسلامية أن تعود إلى رشدها بترك الخلافات التى لا تجنى من ورائها إلا الضعف والإِساءة إلى سمعة الإسلام، وهو الدين الخاتم الذى جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، واختار له رسولا قال فيه: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} الأنبياء: 106