F عطية صقر.
مايو 1997
Mالقرآن والسنة
Q هل أطلع الله أحدا على علم الغيب؟
صلى الله عليه وسلمn مما يتصل بالعقيدة الإيمان بالغيب، كما قال تعالى فى وصف المتقين {الذين يؤمنون بالغيب} البقرة: 3، وقد وردت نصوص تتحدث عن الغيب منها: قوله تعالى {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} الأنعام: 59، وصح فى الحديث الذى رواه البخارى أنها خمس، وهى التى جاءت فى قوله تعالى {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما فى الأرحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأى أرض تموت إن الله عليم خبير} لقمان: 34، وقوله تعالى {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا. إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا} الجن: 26، 27، وقوله تعالى {قل لا أملك لنفسى نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} الأعراف: 188، والغيب ما قابل الشفاعة، أى ما يغيب على الإنسان العلم به ومنه ما يمكن التوصل إليه بالوسائل المختلفة، كالمسروق يعرف بالبحث عنه، والمجهول يعرف بالتعلم، كالكهرباء والفيروسات وما إليها، ومنه ما لا يمكن التوصل إلى معرفته بالوسائل العادية بل لا بد فيه من خبر صادق، كأحوال الآخرة، التى يجب أن نؤمن بها لورودها فى القرآن والسنة.
ومن الغيب قيام الساعة وما ذكر فى مفاتح الغيب، وقد يعرف شئ ع منها بإطلاع الله سبحانه عليها من يرتضيه من الرسل، كما نصت على ذلك الآية.
والإيمان باختصاص الله بعلم مفاتح العيب واجب بدليل الحصر فى قوله:
{لا يعلمها إلا هو. ومن ادعى عَدم اختصاصه بذلك كفر، لأنه كذب القرآن الكريم الصريح فى الدلالة عليه، ومن حاول معرفة هذه المفاتح ليشارك الله فيها كفر أيضا، أما من يحوم حولها مؤمنا بأنه لن يصل إلى العلم اليقينى به فلا يكفر، ومعلوماته التى يصل إليها من وراء هذه المحاولة معلومات ظنية لا يقينية، والفرق بين علم الله تعالى ومعارف البشر يتركز فى نقطتين أساسيتين، أولاهما أن علم الله عن أى شىء شامل لجميع ما يتصل بهذا الشىء، والثانية أن علمه سبحانه يقينى لا ظنى. أما علم غيره من البشر فلن يجمع الأمرين معا، لا فى الكم ولا فى الكيف، قال تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} الإسراء:
85، وقال: {وما لهم به من علم. إن يتبعون إلا الظن. وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا} النجم: 28، ولئن حصل علم بشىء عن شىء فهو علم قاصر.
وقد حاول الإنسان أن يبحث عن المجهول المستقبل منذ خلق وفيه غريزة حب الاستطلاع، وبذل فى ذلك جهودا كبيرة، واتخذ وسائل متعددة، وكان من هذه الوسائل ما عرف باسم الكهانة والتنجيم والعرافة والطيرة والطرق وضرب الرمل وقراءة الفنجان وقياس الأثر وما يبتكر غير ذلك.
وفيما يلى تعريف بكل منها:
1 - الكهانة، هى ادعاء علم الغيب، بالإخبار عن المضمرات، أو عن المغيبات فى مستقبل الزمان بأية وسيلة من الوسائل، وقد تختص بما كان فيه اتصال بالجن (يراجع شرح النووى على صحيح مسلم ج 5 ص 22) .
2 -التنجيم: وهو الاستدلال بالنجوم فى مواقعها وتحركاتها على ما سيكون فى المستقبل من مطر أو حر أو برد أو مرض أو موت وغير ذلك، وقيل هو الكهانة (يراجع شرح النووى على صحيح مسلم ج 5 ص 22) ..
3 -العرافة: هى ادعاء معرفة الأمور بمقدمات وأسباب يستدل بها علَّى مواقعها كالمسروق من الذى سرقه، والضالة أين مكانها، وقيل هى السحر " (يراجع شرح النووى على صحيح مسلم ج 5 ص 22) .
4- الطيرة: بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن -وهى مصدر تطير، مثل تخير خيرة، ولم يجئ من المصادر هكذا غيرهما-ومعناها التشاؤم بالشىء، أو الاستدلال من طيران الطائر، أو من رؤية شئ أو سماع صوت على ما سيحصل للإنسان، وقد كان العرب يزجرون الطير من أماكنها. فإن طارت يمينا استبشرت، وإن طارت شمالا تشاءمت، ويقال لها أيضا " العيافة" من عاف عيفا، وسيجىء حديث عن الفرق بين الطيرة والفأل.
5 - الطرق: وهو الضرب بالحصا أو الودع، وقيل: هو الطيرة وقيل:
ضرب الرمل.
6-ضرب الرمل: وهو وضع خطوط وعلامات على الرمل، لمعرفة ما يخبأ للإنسان ويعرف أيضا بالخط، روى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عنه فقال: " كان نبى من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك " وكذب ابن القيم نسبة الخط إلى إدريس عليه السلام، وجاء فى تفسيره: أن "الحازى " أى المحترف لذلك يأتيه الرجل ليعرف حظه، فيخط على أرض رخوة خطوطا كثيرة بالعجلة، ومعه غلام، ثم يمحو منها على مهل خطين خطين والعلام يقول: ابنى عيان، أسرعا البيان، فإن بقى خطان فهما علامة النجح، وإن بقى خط واحد فهو علامة الخيبة، ويقول ابن الأثير فى " النهاية ": إنه علم معروف فيه تصانيف، ويعمل به الآن، ولهم فيه اصطلاحات، يستخرجون به الضمير وغيره، وكثيرا ما يصيبون فيه (هكذا يقول) ويرجع فيه إلى شرح النووى على صحيح مسلم ج 5 ص 23، 7 -قراءة الفنجان: وهى الاستدلال بآثار القهوة على الفنجان على ما يفكر فيه شاربه، ويزعم بعض المعاصرين أن أثر الزفير على القهوة يعطى مؤشرات صادقة، لكن إذا كان ذلك من الناحية الطبية أو العضوية فهل تمكن معرفة المستقبل؟ فيه كلام.
8 - قياس الأثر: وهو أخذ قطعة من ثياب الإنسان أو متعلقاته وقياسها بالشبر والأصابع، والاستدلال بذلك على ما يكون لصاحبه.
وهذه الأشياء وأمثالها نهى الإسلام عنها، لأنة تتنافى مع اختصاص علم الله بالغيب يقول النبى صلى الله عليه وسلم " ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " (رواه البزار بإسناد جيد والطبرانى بإسناد حسن دون قوله " ومن أتى كاهنا ") ويقول " من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد برىء مما أنزله الله على محمد، ومن أتاه غير مصدق له لم تقبل له صلاة أربعين ليلة " (رواه الطبرانى) ، ويقول " من أتى عرافا فسأله عن شىء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوما" (رواه مسلم) ويقول " من أتى عرافا أو كاهنا فصدق بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " (رواه أصحاب السنن الأربعة والحاكم وصححه) ويقول " من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من للسحر زاد ما زاد " (رواه أبو داود وابن ماجه) ويقول: " العيافة والطير والطرق من الجبت " (رواه أبو داود والنسائى وابن حبان فى صحيحه) والجبت ما عبد من دون الله 0 وقد ذكر الله تعالى فى القرآن الكريم أن الجن لا يعلمون الغيب، فكيف يصدقها من يعتمد على أخبارها؟ قال تعالى {فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته، فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا فى العذاب المهين} سبأ: 14، والاتصال بالجن ممكن، وكذلك استخدامهم فى بعض الأغراض، فقد سخرهم الله لسليمان كمعجزة، فلا مانع من تسخيرهم لغيره، ولم يرد نص يمنع ذلك، وقد حدث لبعض الناس بطرق يعرفونها، ووضح ذلك المحدث الشبلى فى كتابه " آكام المرجان ".
يتبين من هذه النصوص أن الاعتقاد بان غير الله يعلم الغيب علما يقينيا شاملا كفر بما جاء فى القرآن الكريم خاصا بذلك، ومن مارس هذه الأعمال ينسحب حكمه على من يلجأون إليه لمعرفة الغيب، فمن صدقه فقد كفر، ومن لم يصدقه فقد ارتكب إثما عظيما ينقص من إيمانه، ولا يقبل الله صلاته أربعين يوما.
روى الشيخان أن ناسا سألوا النبى صلى الله عليه وسلم عن الكاهن أو الكهان فقال " لا ليسوا بشىء " فقالوا: يا رسول الله انهم يحدثونا أحيانا بشىء أو بالشىء فيكون حقا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تلك الكلمة من الوحى يخطفها الجنى فيقرها - أى يلقيها - فى أذن وليه، فيخلط معها مائة كذبة " وجاء فى البخارى " إن الملائكة تنزل فى العنان، وهو السحاب، فتذكر الأمر قضى فى السماء، فيسترق الشيطان السمع فيسمعه، فيوجه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم ".
هذا وقد أبدلنا بهذه الأمور وسيلة يمكن بها أن نطمئن لما نقدم عليه من عمل، وهى صلاة الاستخارة مع دعائها المعروف الذى جاء به الحديث الصحيح الذى رواه البخارى ولنسمع قول الله تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} الإسراء: 36.
تنبيهات التنبيه الأول عن علم الساعة:
سبق بيان أن علم الساعة من مفاتح الغيب التى استأثر الله بعلمها، والآيات القرآنية كثيرة فى ذلك، وكذلك الأحاديث النبوية الصحيحة، التى من أقواها حديث جبريل حين سأل النبى صلى الله عليه وسلم عنها، فقال " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " ثم ذكر له بعض علاماتها.
ومع ذلك حاول بعض الناس قديما وحديثا معرفة موعدها، وأثبت الواقع خطأهم، ثم جاءت نحلة البهائية أخيرا وزعمت أنها تعرف موعد قيام الساعة بناء على أمرين، أولهما سر العدد 19 والثانى بعض آيات من القرآن الكريم، وفيما يلى تفصيل ذلك والرد عليه.
أولا: العدد 19 المذكور فى قوله تعالى فى وصف جهنم: {عليها تسعة عشر} المدثر: 30، زعموا أن له سرا حاولوا أن يثبتوه بحصر الحروف الموجودة فى بعض السور، أو فى فواتحها من الحروف المقطعة أو فى بعض الكلمات، وبطريق التعويض عن الحروف بأرقام على النظام اليهودى فى الأبجدية حددوا وقت قيام الساعة.
ويرد على هذا بأن القرآن فيه أعداد أخرى كالعشرة والمائة والألف وغيرها، فلماذا اختاروا هذا العدد بالذات؟ وبأنهم لم يتبعوا المنهج العلمى عند حصر الحروف، فأسقطوا بعضها ليتم لهم ما يريدون، كما كشف عن ذلك المتبعون للحصر الذى أعلنوه، وبأن أية مجموعة كبيرة من الأعداد يمكن التوصل منها إلى مجموعات تقبل القسمة على أى عدد من الأعداد، وليس شرطا أن يكون العدد 19، وذلك من البدهيات عند علماء الرياضة (بحث الدكتور على موسى أستاذ الفيزياء الرياضية بكلية العلوم جامعة عين شمس، المنشور بجريدة اللواء الإسلامى: عدد 116، فى 7 رجب 1405 هجريه 28/3/1985 م) كما زعموا أن اليهود أخبروا النبى صلى الله عليه وسلم بأن حروف " الم " تدل على. عدد السنوات التى تعيشها دعوته ولم ينكر عليهم ذلك.
وهذا خبر مدسوس ليس له سند يعتمد عليه.
ثانيا: استدلوا من القرآن الكريم بآيتين، أولهما قول الله تعالى {يسألونك عن الساعة أيان مرساها، قل إنما علمها عند ربى لا يجليها لوقتها إلا هو، ثقلت فى السموات والأرض، لا تأتيكم إلا بغتة، يسألونك كأنك حفى عنها، قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون} الأعراف: 187، قالوا: إن قوله {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} يفيد أن بعضا قليلا من الناس يعلمون موعد الساعة، وهم من هذا القليل. ويرد عليهم بان نفى العلم عن أكثر الناس منصب على الإيمان بما سبق فى الآية، من اختصاص علم الله بها، وبأنها ثقيلة ولا تأتى إلا بغتة، فأكثر الناس وهم الكافرون يجهلون هذه الحقيقة المقررة فى الآية، ولا معنى لما فهموه من أن أكثر الناس جاهلون بموعد الساعة والقليل بعلمه، ففى فهمهم لأول الآية وآخرها تضارب، والقرآن الكريم منزه عن ذلك.
ومع احتمال فهمهم هذا فالاستدلال به ساقط، لأنه ليس هو الفهم الوحيد المتعين لها، ومعلوم أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
والآية تدل بصراحة على نفى علم أحد بالساعة، أى بوقت حدوثها، فَذلك من اختصاص الله وحده، وذلك واضح فى قصر علمها عليه سبحانه بأكثر من أسلوب، وفى أنها تأتى بغتة، وفى عدم علم النبى صلى الله عليه وسلم بذلك. فلا بد من توافق آخر الآية مع هذه المقررات الصريحة فيها. ونفى علم أحد بموعدها يستوى فيه القليل والكثير من الناس.
والآية الثانية التى استدلوا بها هى قوله تعالى {إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى} طه: 15، قالوا إن فعل " كاد " إذا كان مثبتا يدل على نفى ما بعده، فمن يقول: كدت أقع يدل على أنه لم يقع؟ وعلى هذا فمعنى " أكاد أخفيها " أنه لم يخفها، فتمكن معرفتها بطريق أو بآخر، وليس حتما أن يكون ذلك عن طريق الوحى فقط كما قال تعالى {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا. إلا من ارتض من رسول} الجن: 26، 27، بل يمكن أن يكون بطريق الحساب أو بغيره.
ويرد على ذلك بأن الفعل " خفى " يستعمل فى اللغة للستر وللإظهار، فهو من الأضداد، يقال: خفاه يخفيه خفيا، من باب رمى.
وخفيا أيضا-بضم الخاء وكسر الفاء-وفى بعض القراءات " أخفيها " بفتح الهمزة، وكما أن الخفى الثلاثى يفيد الستر والإظهار كذلك يفيدهما الإخفاء وهو مصدر الفعل الرباعى أخفاه. وعلى هذا فالآية ليست دليلا قاطعا على مدعاهم، فقد يكون معناها: أكاد أظهرها، بل يجب المصير إلى هذا المعنى لتتوافق الآيات بعضها مع بعض، والمتشابه يرد إلى المحكم كما قال تعالى {هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب} آل عمران: 7، وهؤلاء فى قلوبهم زيغ يبتغون الفتنة، حيث تمسكوا بالمتشابه ولم يأبهوا بالمحكم الذى يجب رده إليه، وليسوا من الراسخين فى العلم على أى وجه يكون الوقف فى الآية " مذهب السلف ومذهب الخلف " لأنهم فى محاولتهم لتقديس العدد 19 خالفوا المنهج العلمى وزيفوا، وفى عدم رد المتشابه إلى المحكم ظهر جهلهم بأصول البحث، ولم يؤمنوا بما جاء فى القرآن الكريم نصا فى عدم علم أحد بالساعة إلا الله سبحانه.
وبهذا يظهر أن استدلال هؤلاء استدلال واه ضعيف أو فاسد لا يثبت مدعاهم، ولم يعتبروا بمن سبقهم ممن زعموا علم الساعة وحددوا موعدها فافتضح أمرهم، وليس المهم هو معرفة وقت قيامها بل المهم هو الاستعداد لها، وقيامة كل إنسان موته أو عقب موته، فمن مات فقد قامت قيامته، لأنه لا عمل بعد الموت، بل جزاء وحساب، كما فى القيامة الكبرى. وقد نبه النبى صلى الله عليه وسلم من سأله عنها إلى الاستعداد لها، فكل من الموت والقيامة يأتى بغتة، روى البخارى ومسلم عن أنس رضى الله عنه أن إعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم متى الساعة؟ فقال " ما أعددت لها "؟ قال: حب الله ورسوله، قال " أنت مع من أحببت ".
التنبيه الثانى عن العلم بما فى الأرحام:
مما اختص الله بعلمه: ما فى الأرحام، كما سبق فى الآية، وكما قال تعالى أيضا: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد، وكل شىء عنده بمقدار} الرعد: 8، ولا ينافى ذلك ما يقال:
إن بعض الناس توصلوا إلى معرفة نوع الجنين قبل أن يولد من بطن أمه، وهو ما يزال فى الرحم حتى أيامه الأولى، ذلك أن علم الله بما فى الأرحام علم شامل، وفى الوقت نفسه علم يقينى لا ظنى، فالله يعلم المولود قبل أن يولد، بل قبل أن يتكون أصلا، يعلمه علما شاملا، ويخبر الملائكة ببعض ما يعلمه عنه، وهم لا يعلمون عنه شيئا قبل أن يخبرهم الله به، كما قال سبحانه عنهم: {قالوا سبحانك لا علم لنا آلا ما علمتنا} البقرة: 32، جاء فى الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم " إن أحدكم يجمع خلقه فى بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقه مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقى أو سعيد، فوالذى لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" (رواه البخارى) ، وفى بعض الروايات " ذكر أم أنثى " بدل "عمله ".
فلو فرضنا أن الإنسان عرف نوع الجنين فهل يعرف ما بقى من رزقه وأجله وما تنتهى إليه حياته من سعادة أو شقاء، على أن معرفة نوع الجنين لا تتيسر فى كل الحالات، بل فى فترة معينة، أما الله سبحانه وتعالى فيعلم ذلك كل وقت، بل قبل أن يتكون الجنين كما قلنا، وعلم الله بذلك علم يقينى لا يتطرق إليه الشك، وعلم الإنسان ظن وأحيانا يتخلف، ولبعض الناس شواهد لمعرفة نوع الجنين لا تعدو أني تكون ظنونا (انظر كتاب منهج الإسلام فى تربية الأولاد) .
التنبيه الثالث عن التنجيم:
ينبغى الفرق بين التنجيم وعلم النجوم أو الفلك، فالتنجيم حدس واستنباط لا يقوم على أسس علمية صحيحة لا تخطئ، أما علم النجوم فهو علم يدعو إليه الدين لمعرفة أسرار الكون والإيمان بالله أو تعميق الإيمان به، وقد جاءت الآيات الكثيرة تدعو إلى التفكر فى خلق - السموات والأرض، والإفادة من مسخرات الكون ماديا وأدبيا.
يقول ابن حجر الهيتمى (الزواجر: ج 2 ص 110) : والمنهى عنه من علم النجوم ما يدعيه أهلها من معرفة الحوادث الآتية فى مستقبل الزمان، لمجىء المطر ووقوع الثلج وهبوب الريح وتغير الأسعار ونحو ذلك، يزعمون أنهم يدركون ذلك بسير الكواكب لاقترانها وافتراقها وظهورها فى بعض الأزمان، وهذا علم استأثر الله به لا يعلمه أحد غيره، فمن ادعى علمه بذلك فهو فاسق، بل ربما يؤدى به إلى الكفر.
أما من يقول: إن الاقتران والافتراق الذى هو كذا جعله الله علامة، بمقتضى ما اطردت به عادته الإلهية، على وقوع كذا وقد يتخلف فإنه لا إثم عليه بذلك، وكذا الأخبار عما يدرك بطريق المشاهدة من علم النجوم الذى يعرف بها الزوال وجهة القبلة، وكم مضى وكم بقى من الوقت، فإنه لا إثم فيه، بل هو فرض كفاية.
وفى حديث الصحيحين عن زيد بن خالد الجهنى رضى الله عنه قال:
صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح فى أثر سماء - أى مطر- كانت فى الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: " أتدرون ماذا قال ربكم "؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " قال:
أصبح من عبادى مؤمن بى وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بى، كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا- أى وقت النجم الفلانى - فذلك كافر بى، مؤمن بالكوكب ".
قال العلماء: من قال ذلك مريدا أن النوء هو المحدث والموجد فهو كافر، أو أنه علامة على نزول المطر، والذى ينزله هو الله وحده، لم يكفر، ويكره قول ذلك، لأنه من ألفاظ الكفرة، والمهم أن يكون الاعتقاد صحيحا فى أن الله هو فاعل كل شىء، وأنه وراء الأسباب جميعا، ولا يقع فى ملكه إلا ما يريد، وما يصل إليه الباحثون ويستنتجونه هو ظن قد يصدق بعضه ويتخلف البعض الآخر.
التنبيه الرابع عن الطيرة والفأل:
سبق القول بأن الطيرة أو التطير يقوم على الربط بين ما يحصل للإنسان فى المستقبل وبين رؤية شىء أو سماع صوت، والتشاؤم نوع من التطير إذا كان رد الفعل مكروها، ويقابله التفاؤل والفأل إذا كان رد الفعل مقبولا، وقد تستعمل هذه الألفاظ بعضها مكان البعض الآخر. وللباعث عليه هو رغبة الإنسان فى معرفة ما يغيب له، وهو قديم تحدث عنه القرآن الكريم، فقال عن ثمود قوم صالح عليه السلام {قالوا اطيرنا بك وبمن معك. قال طائركم عند الله} النمل: 47، وعن قوم موسى عليه السلام {وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه. ألا إنما طائرهم عند الله} الأعراف: 131، وعن أصحاب القرية التى بعث إليها أصحاب عيسى عليه السلام {قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمساكم منا عذاب أليم. قالوا طائركم معكم} يس: 18، 19.
وكان معروفا عند العرب فى الجاهلية، وبخاصة فى طيران الطير أو زجره أو زجر الوحوش وإثارتها، فما تيامن منها سموه " السانح " وما تياسر سموه " البارح " وما استقبلهم سموه " الناطح " وما جاءهم من الخلف سموه " القعيد أو القاعد ". ومن اشتهر عندهم بمعرفة ذلك يسمونه " العائف أو العراف " ومنهم عراف اليمامة والأبلق الأسيدى وعروة بن زيد.
ومنهم من كان يقدح فيه ولا يعترف به، كالمرقش السدوسى وجهم الهذلى، وجاء فى ذلك قول المرقش:
ولقد غدوت وكنت لا لم أغدو على واق وحائم * فإذا الأشائم كالأيامن والأيامن كالأشائم * وكذاك لا خير ولا شر على أحد بدائم * لا ينعنك من بغاء الخير تعقاد التمائم* قد خط ذلك فى السطور الأوليات القدائم * والواقى هو الصرد - نوع من الطيور - والحائم هو الغراب.
يقول ابن القيم: من اهتم بذلك أسرع إليه التأثر، وكثر وساوسه فيما يسمعه ويراه ويعطاه، فإذا أهدى إليه سفرجل أو سمع اسمه تشاءم وقال:
سفر وجلاء، وهكذا، وذكر عدة حوادث فى ذلك.
وقد ذم الله التطير وحكاه عن قوم هم أعداء الرسل، ومعنى طائركم وطائرهم ما قض وقدره عليهم بسبب كفرهم وتكذيبهم، وهو راجع عليهم، وذمه النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث الصحيحين عن الذين يدخلون الجنة بغير حساب بقوله " ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون " وفى غير ذلك من الأحاديث التى سبق ذكرها. وجاء فى مسلم أن معاوية بن الحكم السلمى قال: يا رسول الله، ومنا أناس يتطيرون، فقال " ذلك شىء يجده أحدكم فى نفسه فلا يصدنه ".
فبين أن تأثيرها ليس من ذاتها، بل من الإنسان نفسه الذى يعتقد فيها.
ومع نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن الطيرة كان يحب الفأل الحسن، ففى الصحيحين " لا عدوى ولا طيرة، وأحب الفأل الصالح " وفى لفظ "وخيرها الفأل " وفى لفت " وأصدقها الفأل " ومنه قوله عليه الصلاة والسلام " إذا أبردتم إلى بريدا فاجعلوه حسن الاسم حسن الوجه " وله فى الفأل حوادث، منها اختيار من اسمه "يعيش " ليحلب الناقة ورفض من اسمه " حرب "، وأخبر عمر عن سبب ذلك ونفى أنه تطير فقال " ظننت يا عمر أنها طيرة، ولا طير إلا طيره، ولا خير إلا خيره، ولكن أحب الفال " وكره المرور يوم بدر بطريق فيه جبلان لم يعجبه اسمهما ولا اسم الساكنين فيه. وفى الصحيحين أنه قال " الشؤم فى ثلاث، فى المرأة والدار والدابة " وفى الموطأ أنه أمر امرأة بالتحول من دارها لما أصابهم فيها من مكروه.
وقد علق ابن القيم على ذلك بأن الفال ليس فيه شرك بل فيه تقرير لطبيعة الإنسان فى حب الخير وكراهية الشر، كما يحب الصوت الحسن والرائحة الطيبة والأخبار السارة عن الخصب والصحة والانتصار، مع اعتقاد أن هذه الأمور لا تؤثر أبدا إلا بإذن الله كما فى التشاوم بالدار، والتشاؤم قد يؤدى الى الشرك وترك التوكل على الله.
أما الفأل فيفضى إلى الأمل والطاعة وتوحيد الله. وقال بعضهم فى الفرق بين التطير والفأل: إن الفأل فيه إبانة عن شىء حاصل فى النفس وهو الارتياح الذى ظهر بسماع الاسم الحسن مثلا، أما التطير ففيه استدلال على شىء غير حاصل.
وحديث الشؤم روى بوجهين، أحدهما بالجزم والثانى بالشرط. فالأول " الشؤم فى الدار والمرأة والفرس " والثانى " إن يكن من الشؤم شىء حقا ففى الفرس والمسكن والمرأة " فقالت طائفة: لم يجزم النبى صلى الله عليه وسلم بالشؤم فى هذه الثلاثة، بل علقه على الشرط ولا يلزم من صدق الشرطية صدق كل واحد من طرفيها. وقالت طائفة أخرى: إضافة الشؤم إليها مجاز واتساع، أى قد يحصل مقارنا لها لأنها هى نفسها مما يوجب الشؤم، فقد تكون الدار قد قض الله أن يميت فيها بعضا من خلقه، فمن كتب الله عليه الموت فى تلك الدار حسن إليه سكناها حتى يقبض فيها. سئل مالك رضى الله عنه عن الشؤم فى الدار فقال: إن ذلك كذب فيما نرى، كم من دار سكنها ناس فهلكوا، ثم سكنها آخرون فملكوا.
وقال آخرون: إنما يلحق الشؤم من تشاءم منها، أما من توكل على الله فلا يلحقه ضرر منها، ولذلك نصح النبى صلى الله عليه وسلم المرأة أن تتحول عن هذه الدار ما دامت تتشاءم منها، وهو من باب الرحمة والتيسير، بدل أن يرغمها على سكناها ونفسها لم تتهيا لترك الشؤم وللاتكال على الله بعد، فقد يزيدها ذلك أعتقادا فى التطير وهو شرك، أو يسلمها إلى الحزن بكراهة الدار، ولو أرغم من ضاق رزقه فى بلد على عدم مفارقتها لكان ذلك هو الحرج الذى لا يرضاه الله لعباده.
ثم يجيب ابن القيم إجابة جامعة عن كل ما نسب إلى الرسول وغيره من الفال بقوله: إن بين الأسماء والمسميات ارتباطا بقدرة الله. وألهمه الله للعباد، وليس ارتباط العلة بمعلولها، بل ارتباط تناسب وتشاكل، ولكل شىء من اسمه نصيب بقدر ما، ووقوع حوادث مرتبطة بأشياء أخرى هو مصادفة واتفاق وليس على سبيل التسبب والتأثير.
ثم يقول: تعطيل الأسباب تعطيل للشرع ومصالح الدنيا، والاعتماد عليها كلية شرك بالله تعالى، فالمقامات ثلاثة: أحدها تجريد التوحيد وإثبات الأسباب، وهو ما جاء به الشرع، والثانى الشرك فى الأسباب بالمعبود، والثالث إنكار الأسباب بالكلية محافظة من منكرها على التوحيد.
فالمنحرفون طرفان مذمومان، إما قادح فى التوحيد بالأسباب، وإما منكر للأسباب بالتوحيد، والحق غير ذلك، وهو إثبات التوحيد والأسباب وربط أحدهما بالآخر، فالأسباب محل حكمه الدينى والكونى، والحكمان عليها يجريان بل عليها يترتب الأمر والنهى والثواب والعقاب، والتوحيد تجريد الربوبية والإلهية عن كل شرك. وذكر فى التوفيق بين النهى عن الاقتراب من المجذوم وبين أكل النبى معه، أن النبى صلى الله عليه وسلم أثبت السبب وأمر بالفرار، وأثبت المانع وهو التوكل فأجاز المؤاكلة، لكن لا يقدر كل أحد على المانع وهو التوكل، فأرشد إلى مجانبة المجذوم تشريعا للفرار من أسباب الأذى، ووضع يده معه تعليم للأمة بدفع الأسباب بما هو أقوى منها، وإعلام بأن الضرر والنفع بيد الله عز وجل. فالمؤمن إذا وثق بالله لا يضره السبب، كما قيل عند الطيرة (اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، اللهم لا يأتى بالحسنات إلا أنت، ولا يذهب بالسيئات آلا أنت، ولا حول ولا قوة آلا بك " ثم يمض لحاجته.
هذا الأثر ذكره ابن القيم فى بحثه عن الطيرة والتشاؤم، روى أبو عمرو فى " التمهيد" بسند فيه ابن لهيعة عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم قال " من أرجعته الطيرة من حاجته فقد أشرك " قال: وما كفارة ذلك؟ قال " أن يقول أحدهم. . . " وذكر الحديث، وأورد عن كعب الأحبار مثل ذلك وأنه فى التوراة