F محمد عبده.
محرم 1322 هجرية
M 1 - قامت الأدلة من الكتاب والسنة وعمل السلف على جواز الاستعانة بغير المؤمنين وغير الصالحين على ما فيه خير ومنفعة للمسلمين.
2 - استعان الخلفاء من بنى أمية وبنى العباس بأرباب العلوم والفنون من الملل المختلفة فيما هو من فنونهم على أعين الأئمة والأعيان والفقهاء والمحدثين بدون نكير.
3 - الذين يعمدون إلى هذه الاستعانة لجمع كلمة المسلمين وتربية أبنائهم وما فيه خير لهم لم يفعلوا إلا ما اقتضته الأسوة الحسنة بالنبى صلى الله عليه وسلم - وأن من كفرهم أو فسقهم فهو بين أحد الأمرين إما كافر أو فاسق
Q الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين أما بعد فقد ألقى إلى أستاذ من أساتذة الجامع الأزهر وهو موظف كبير فى المحاكم الشرعية سؤالا ورد من الهند إلى بعض أبنائه يطلب الجواب عليه والسؤال موجه إلى العلماء لا إلى عالم واحد كما هو مذكور فى نصه، فرأيت أن يكون الجواب عليه محتويا على مقال كثير من أفاضل العلماء، وقد انتدب حضرة حامل السؤال إلى كتابة ما يجده كثير من أفاضل العلماء، وقد علماء الحنفية فى موضوعه، وأرسلت بنسخة من السؤال إلى حضرة الأستاذ شيخ الحنابلة فى الجامع الأزهر، فورد منه ما رآى أن يجيب به وكلفت جماعة من أساتذة الشافعية والمالكية أن يكتبوا ما يعتقدون أنه الحق فى جواب السؤال، فكتبوا وأشبعوا، جزاهم الله خيرا، وإنى أبتدىء بما أجاب به أفاضل الشافعية والمالكية بعد ذكر السؤال، ثم أثنى بجواب شيخ الحنابلة وأختم بمقال الأستاذ الحنفى ثم بما يعن لى أن أضمه إلى أقوال جميعهم والله الموفق للصواب.
وهو الهادى إلى الصراط المستقيم (السؤال)
صلى الله عليه وسلمn ما يقول السادة العلماء فى جماعة من المسلمين يقرون أنهم على عقيدة أهل السنة والجماعة،ومن تعابعى فقهاء الأئمة الأربعة، ويسعون فى تحصيل الألفة والاتفاق بين أهل الإسلام ويدعون أهل الردة واليسار إلى تربية أيتام المسلمين، وإلى إشاعة الإسلام فى مقابلة حملات الكتابيين وصولات الوثنيين، إلا أنهم مع ذلك يستعينون بالكفار وأهل البدع والأهواء لنصرة الملة الإسلامية وحفظ حوزة الأمة المحمدية وجمع شملها واتحاد كلمتها فهل مثل هذه الاستعانة تجوز شرعا وهل لها نظير فى القرون الثلاثة الفاضلة المشهود لها بالخير وهل يجوز شرعا وهل يجوز لأحد من المسلمين أن يعارضهم فى هذه الأعمال الجليلة والمقاصد الحسنة ويسعى فى تثبيط الهمم عن معاونتهم والتنفير من صحبتهم نظرا إلى أنهم يستعينون فيها بالكفار وأهل البدع والأهواء ويدخلون مجالسهم ويخالطونهم لمثل هذه المصالح العامة وما حكم من يرميهم بمجرد هذه الأعمال بالكفر والتضليل وسوء الاعتقاد والخروج عن أهل السنة والجماعة أفيدوا الجواب ولكم الثواب.
(ما كتبه جماعة من أفاضل المالكية والشافعية) .
أما السعى فى تحصيل الألفة والاتفاق بين أهل الإسلام، فلا نزاع فى أنه من أفضل الأعمال الدينية وأعظمها عند الله تعالى، فإن التآلف والتودد بين المسلمين هو مدار الإيمان وأساس الإسلام، والسبب الوحيد لنظام المدنية وقوام المجتمع الإنسانى ومدار سعادته فى الأولى والآخرة، وقد حث النبى صلى الله عليه وسلم على الأخذ به وبيان فوائده فى كثير من الأحاديث، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا) وقوله (لا يؤمن عبد حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير) وقوله (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) وقوله (والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قيل ومن يارسول الله قال الذى لا يأمن جاره بوائقه (شروره) أى لا يأمن جاره شره وقوله (نظر المؤمن إلى أخيه المؤمن حبا له وشوقا إليه خير من اعتكاف سنة فى مسجدى هذا) وقوله (أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سرورا أو تقضى عنه دينا) وقوله (أفضل الفضائل أن تصل من قطعك وتعطى من حرمك) وقوله (من أصلح فيما بيته وبين الله أصلح الله فيما بينه وبين الناس، ومن أصلح جوانيه أصلح الله برانيه) ومن تأمل فى قوله تعالى {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون} الحجرات 10، وقوله تعالى {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين} الأنفال 46، مع قوله صلى الله عليه وسلم لا تباغضوا ولا تدابر ولا تنافسوا وكونوا عباد الله إخوانا) وقوله (دب فيكم داء الأمم قبلكم ألا وهى البغضاء والحسد والبغضاء هى الحالقة ولا أقول حالقة الشعر وإنما هى حالقة الدين) من نظر فى ذلك كله عرف ما للسعى فى تحصيل الألفة والمحبة بين الناس من المكانة فى الدين وأنه من أعظم الأعمال وأفضل الخصال، وعرف وجه حث الشارع عليه والتنويه بشأنه وتعظيم قدره.
وأما تربية أيتام المسلمين ودعوة المثرين إليها فمن الأمر بالمعروف فى الدين ومن أفضل أعمال البر وأحبها عند الله تعالى، والسنة مملوءة بطلب الرفق بالأيتام والضعفاء والمساكين.
ففى الحديث (من أحسن إلى يتيم أو يتيمة كنت أنا وهو فى الجنة كهاتين) وفيه خير بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه أنا وكافل اليتيم فى الجنة كهذا وقال بإصبعيه السبابة والوسطى) وفيه أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك) وكان عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه إذا ذكر النبى صلى الله عليه وسلم بكى وقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالناس وكان لليتيم كالوالد، وكان للمرأة كالزوج الكريم، وكان أشجع الناس قلبا وأوضحهم وجها وأطيبهم ريحا وأكرمهم حسبا، فلم يكن له مثل فى الأولين والآخرين.
إلى غير ذلك من الأحاديث - أما القرآن فكثيرا ما قرب بين اليتامى وذوى القربى والمساكين وابن السبيل فى مقام الأمر بالإحسان والعبادة.
قال تعالى {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذى القربى واليتامى والمساكين} النساء 36، وقال {وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين} البقرة 177، إلى غير ذلك من الآيات - وأما إشاعة الإسلام فى مقابلة حملات الأجانب والدعوة إليها فهى أول مسألة من مسائل الدين وأساس وجوده وعليها حفظ كيانه وبقائه بل هى النوع الميسور الآن من أنواع الجهاد فى سبيل الله تعالى كالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
قال {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} المائدة 67، وقال تعالى {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} الحجر 94، وقال تعالى {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} التوبة 122، وقال تعالى {وأنذر عشيرتك الأقربين.
واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} الشعراء 214، 215، وقوله {وقل إنى أنا النذير المبين} الحجر 89، إلى غير ذلك من الآيات.
وفى الحديث عن طارق قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذى المجاز فمر وعليه جبة حمرا وهو ينادى بأعلى صوته يا أيها الناس لا تطيعوه.
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين النصيحة قيل لمن يارسول الله قال لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم وقال عليه الصلاة والسلام لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم والآيات والأحاديث فى هذا الباب أكثر من أن تحصر.
وليست هذه المسائل الثلاثة من محل الخلاف بين العلماء، بل هى مما أجمع الكل عليه وأما الاستعانة بالكفار وأهل البدع والأهواء على مصالح المسلمين، فإن كانت بأموالهم وكانت لمصلحة دينية أو منفعة دنيوية ولم تشتمل على معنى الإذلال والولاية المنهى عنها، فلا نزاع فى جوازها، خصوصا إذا نظرنا للكفار وأهل الذمة من جهة أنهم نقضوا العهود وتمردوا على الأحكام فإنه لا بأس بتناول أموالهم والانتفاع بها متى أمنت الفتنة والرذيلة وقد قبل النبى صلى الله عليه وسلم الهدية من المشركين، ففى صحيح البخارى قال أبو حميد أهدى ملك أيله للنبى صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء وكساه بردا وكتب له ببحرهم (أهل بحرهم والمقصود - بلدهم - والمعنى أنه أقره عليهم بما التزمه من الجزية) وعن قتادة عن أنس أن أكيد ردومة أهدى إلى النبى صلى الله عليه وسلم.
وعن أنس بن مالك أن يهودية أتت النبى صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجىء بها فقال ألا نقتلها قال لا.
فما زلت أعرفها فى لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن عبد الرحمن بن أبى بكر قال كنا مع النبى صلى الله عليه وسلم ثلاثين ومائة فقال النبى صلى الله عليه وسلم هل مع أحد منكم طعام فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه فعجن ثم جاء رجل مشرك مشعان طويل بغنم يسوقها فقال النبى صلى الله عليه وسلم بيعا أم عطية أو قال أم هبة.
قال بل بيع فاشترى منه شاة فصنعت وأمر النبى صلى الله عليه وسلم بسواد البطن أن يشوى وأيم الله ما فى الثلاثين والمائة إلا وقد حز النبى صلى الله عليه وسلم له حزة من سواد بطنها إن كان شاهدا أعطاها إياه وإن كان غائبا خبأ له.
وطلب صلى الله عليه وسلم من يهودى له دين على صحابى مات وترك أيتاما أن يبرئهم من الدين فما قبل.
وقصته فى البخارى. وفى الألوسى عند قوله تعالى {وما كنت متخذ المضلين عضدا} الكهف 51، مانصه وأما الاستعانة بهم فى أمور الدنيا فالذى يظهر أنه لا بأس بها سواء كانت فى أمر ممتهن كنزع الكنائف أو فى غيره كعمل المنابر والمحاريب والخياطة ونحوها انتهى - وكتب على قوله تعالى {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله فى شىء إلا أن تتقوا منهم تقاة} آل عمران 28، ما نصه قال ابن عباس.
نزلت فى طائفة من اليهود كانوا يباطنون نفرا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقيل لأولئك النفر اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم وملازمتهم فأنزل الله هذه الآية ونهى المؤمنين عن فعلهم.
وحكى فى سبب نزول الآية غير ذلك. ثم أفاد أن المنهى عنه من الموالاة ما يقتضيه الإسلام من بغض وحب شرعيين يصح التكليف بهما، لما قالوا إن المحبة لقرابة أو صداقة قديمة أو جديدة خارجة عن الاختيار معفوة ساقطة عن درجة الاعتبار.
وحمل الموالاة على ما يعم الاستعانة بهم فى الغزو مما ذهب إليه البعض.
ومذهب الحنفية وعليه الجمهور أنه يجوز ويرضخ له.
وما روى عن عائشة رضى الله تعالى عنها أنها قالت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لبدر فتبعه رجل مشرك كان ذا جراءة ونجدة ففرح أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم حينما رأوه، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم ارجع فلن أستعين بمشرك فمنسوخ - لأن النبى صلى الله عليه وسلم استعان بيهود بنى قينقاع ورضخ لهم واستعان بصفوان بن أمية فى هوازن.
وذكر بعضهم جواز الاستعانة بشرط الحاجة والوثوق.
أما بدونها فلا تجوز. وعلى ذلك يحمل خبر عائشة، وكذا ما رواه الضحاك عن ابن عباس فى سبب نزول الآية.
وبه يحصل الجمع وأدلة الجواز. ومما أشار إليه من أدلة المنع والجواز مارواه أحمد وسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذى تبعه ارجع فلن أستعين بمشرك، ثم تبعه فقال له تؤمن بالله ورسوله ن قال نعم.
فقال له فانطلق وعن الزهرى أن النبى صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود فى خيبر وأسهم لهم.
وأن قرمان خرج مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهو مشرك فقتل ثلاثة من بنى عبد الراد حملة لواء المشركين حتى قال صلى الله عليه وسلم إن الله ليأزر هذا الدين بالرجل الفاجر.
كما ثبت ذلك عند أهل السير. وخرجت خزاعة مع النبى صلى الله عليه وسلم على قريش عام الفتح.
وقد تصدى أئمة الحديث والفقهاء إلى الجمع بين هذه الآثار بأوجه منها ما تقدم.
ومنها ما ذكره البيهقى عن نص الشافعى رضى الله عنه إن النبى صلى الله عليه وسلم تفرس الرغبة فى الذين ردهم فردهم رجاء أن يسلموا.
ومنها أن الأمر فى ذلك إلى رأى الإمام. ومنها أن الاستعانة كانت ممنوعة ثم رخص فيها.
قال الحافظ فى التلخيص وهذا أقربها عليه نص الشافعى.
وحكى فى البحر عن العترة وأبى حنيفة وأصحابه أنه تجوز الاستعانة بالكفار والفساق حيث يستقيمون على أوامره ونواهيه واستدلوا باستعانته صلى الله عليه وسلم بناس من اليهود وبصفوان بن أمية يوم حنين قال فى البحر وتجوز الاستعانة بالمنافق إجماعا لاستعانته صلى الله عليه وسلم بابن أبى وأصحابه - انظر نيل الأوطار.
وفى الألوسى عند قوله تعالى {إلا أن تتقوا منهم تقاة} مامفاده وفى الآية دليل على مشروعية التقية وعرفوها بمحافظة النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء سواء كانت عداوتهم مبنية على اختلاف الدين كالكفر والإسلام أو على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والملك والإمارة إلى أن قال وعد قوم من باب التقية مداراة الكفار والفسقة والظلمة وإلانة الكلام لهم والتبسم فى وجوههم والانبساط منهم وإعطائهم لكف أذاهم وقطع لسانهم وصيانة العرض ولا يعد ذلك من باب الموالاة المنهى عنها بل هى سنة وأمر مشروع، وقد روى الديلمى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن الله تعالى أمرنى بمداراة الناس كما أمرنى بإقامة الفرائض) وفى رواية بعثت بالمداراة، وفى الجامع سيأيتكم ركب مبغضون.
فإذا جاءوكم فرحبوا بهم، وروى ابن أبى الدنيا رأس العقل بعد الإيمان بالله تعالى مداراة الناس، وفى رواية البيهقى رأس العقل المداراة، وأخرج الطبرانى مداراة الناس صدقة.
وأخرج ابن عدى وابن عساكر.
من عاش مداريا مات شهيدا، قوا بأموالكم أعراضكم وليصانع أحدكم بلسانه عن دينه وعن عائشة رضى الله عنها قالت (استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بئس ابن العشيرة وأخو العشيرة.
ثم أذن له فألان له القول فلما خرج قلت يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول، فقال يا عائشة (إن من شر الناس من يتركه الناس أو يدعه الناس اتقاء فحشه.
وفى البخارى عن النبى عن ابن أبى الدرداء إنا لنكشر (نشكر بفتح النون وسكون الكاف وكسر الشين أى نضحك ونبتسم) فى وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم.
وأخرج ابن أبى شيبة عن شعيب قال كنت مع على بن عبد الله فمر علينا يهودى أو نصرانى فسلم عليه قال شعيب فقلت إنه يهودى أو نصرانى فقرأ على آخر سورة فسلم عليه قال شعيب فقلت إنه يهودى أو نصرانى فقرأ على آخر سورة الزخرف {وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون.
فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون} الزخرف 88، 89، وقيل لعمر بن عبد العزيز كيف تبتدئ أهل الذمة بالسلام.
فقال ما أرى بأسا أن نبتدئهم. قلت لم قال لقوله تعالى {فاصفح عنهم وقل سلام} الزخرف 89، وروى البيهقى ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا بد له من معاشرته حتى يجعل الله له فى ذلك مخرجا، إلى غير ذلك من الأحاديث، غاية الأمر لا تنبغى المداراة إلى حيث يخدش الدين ويرتكب المنكر وتسىء الظنون إذا علمت ذلك فالاستعانة بالكفار وأهل البدع والأهواء المشار إليها فى السؤال متى خلت عما أومأنا إليه فلا بأس بها بل هى من الأمر المشروع كما تقدم.
وقد علمت نظيرها فى القرون الفاضلة المشهود لها بالخير متى كانت الاستعانة من هؤلاء لنصرة الملك وحفظ حوز الملة وحينئذ لا يجوز لأحد من الناس أن يعارضهم فى هذه الأعمال الجليلة ويسعى فى تثبيط الهمم عن معاونتهم بل الواجب على كل واحد من أفراد الأمة أن يشاركهم فى هذا العمل لأنه من البر والخير وقد قال تعالى {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} الحج 77، {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} المائدة 2، والمؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا والله فى عوف العبد ما دام العبد فى عون أخيه.
وأما حكم من يرميهم بالكفر والتضليل وسوء الاعتقاد فإن كان يعتقد أنهم كفار حقيقة بمثل هذا العمل وأنهم خرجوا عن دين الإسلام بمجرد ذلك، فحديث إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ظاهر فى تكفير هؤلاء المضللين وقد نص شراح الحديث وعلماء الأمة على الأخذ بظاهر هذا الحديث بالقيد المذكور، وإن قصدوا أن هؤلاء بولايتهم للكفار واستعانتهم بهم يفعلون فعل الكفار وليسوا بكفار حقيقة، فمع افترائهم وجهلهم بالدين قد أثموا وارتكبوا جريمة تقرب من الكفر بهذه الكلمة الشنيعة التى لا تصدر من مسلم، فضلا عن عالم.
وفى الحديث (أبغض عباد الله إلى الله طعان لعان) وإن من أخلاق المؤمن ألا يحيف على من يبغض، ولا يأثم فيمن يحب، ولا يضيع ما استودع ولا يحسد ولا يطغى ولا يلغى، ويعترف بالحق وإن لم يشهد عليه، ولا يتنابز بالألقاب - فى الصلاة متخشعا إلى الزكاة مسرعا فى الزلازل وقورا.
فى الرخاء شكورا قانعا بالذى له، لا يدعى ما ليس له، ولا يجمع فى الغيظ، ولا يغلبه الشح عن معروف عليه صبر حتى يكون الرحمن هو الذى ينتصر له هذه هى أخلاق المؤمنين حتى إذا خرجوا منها فسدت أخلاقهم وانطفأ نور إيمانهم ونقضوا عرى الإسلام عروة عروة حتى لا يبقى منهم شىء نسأله السلامة وفى الفروق القرافية اعلم أن النهى يعتمد كما أن الأوامر تعتمد المصالح فأعلى رتب المفاسد الكفر، وأدناها الصغائر، والكبائر متوسطة بينهما، وأكثر التباس الكفر إنما هو بالكبائر، فأعلى رتب الكبائر يليها أدنى رتب الكفر، وأدنى رتب الكبائر يليها أعلى رتب الصغائر.
وأصل الكفر إنما هو انتهاك خاص لحرمة الربوبية، إما بالجهل بوجود الصانع، أو صفاته العلية، أو جحد ما علم من الدين بالضرورة، قال ابن رشد لا يحكم على أحد بالكفر إلا من ثلاثة أوجه وجهان متفق عليهما.
والثالث مختلف فيه. فأما المتفق عليهما فأحدهما أن يقر على نفسه بالكفر بالله تعالى، والثانى أن يقول قولا قد ورد السماع وانعقد الاجماع أن ذلك لا يقع إلا من كافر، وإن لم يكن ذلك نفسه كفرا على الحقيقة وذلك نحو استحلال شرب الخمر وغصب الأموال وترك فرائض الدين والقتل والزنا وعبادة الأوثان والاستخفاف بالرسل وجحد سورة من القرآن وأشباه ذلك مما يكون علامة على الكفر وإن لم يكن كفرا على الحقيقة، والثالث المختلف فيه أن يقول قولا يعلم أن قائله لا يكنه مع اعتقاده والتمسك به معرفة الله تعالى والتصديق به، وإن كان يزعم أنه يعرف الله تعالى ويصدق به.
وبهذا الوجه حكم بالكفر على أهل البدع من كفرهم، وعليه يدل قول مالك فى العتبية ما آية أشد على أهل الأهواء من هذه الآية {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} آل عمران 106، انظر فتاوى أبى عبد الله.
والحاصل أن هؤلاء المضللين المكفرين قد ارتكبوا بهذه الكلمة كبيرة من الكبائر التى تفضى إلى الكفر إن لم يكونوا معتقدين كفر هؤلاء الجماعة المتمسكين بعقائد أهل السنة وأعمال الإسلام والمسلمين، ولعلهم إن شاء الله تعالى يكونون كذلك غير معتقدين كفر هؤلاء، وإنما نطقوا بهذه الكلمة تعصبا وعنادا ظاهريا، فإن باب التكفير باب خطير ينبغى الاحتراز عنه ما وجد إليه سبيل، ولا يعدل بالسلامة شىء وإن كن قولهم بالكفر من الجهل العظيم والإقدام على شريعة الله تعالى وأحكامه بالجهالة وعلى عباده بالفساد والظلم والعدوان، وأما إن كانوا يكفرون أولئك الساعين فى الخير وهم يعتقدون أنهم كفار حقيقة فيكونون هم الكافرين كما سبق فى أول الكلام للحديث ومع ذلك نسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح حالهم وينقذهم من هذه الضلالة ويهديهم إلى الصراط المستقيم - ما كتبه الأستاذ شيخ الحنابلة الحكم عندنا معاشر الحنابلة أن الشرع الشريف ألزمنا ألا نكفر أحدا أهل القبلة إلا إذا عرض نفسه للكفر وكفر بمخالفته ما شرعه لهذه الأمة سيد البشر صلى الله عليه وسلم وكان المخالف فيه مجمعا عليه، وعلماء أهل السنة والجماعة المتصفون بهذه الصفات الممدوحة شرعا من تحصيل الاتفاق والائتلاف بين فرق أهل الإسلام من غير اختلاف وشقاق وغير ذلك من بقية الصفات التى حث عليها الشارع ليسوا كذلك، وإن استعانوا بالكفار فى تحصيل مصالح المسلمين العامة كالصنائع والجهاد وغيرهما، فإن الصنائع مأمور بها شرعا.
وقد اتصف بها آدم ومن بعده الأنبياء والمرسلين كما نص عليه ابن عباس.
وقد نقل المروذى عن الإمام أحمد أنه قال فى قوم لا يعملون ويقولون نحن متوكلون ويقولون نحن متوكلون - هؤلاء مبتدعة - واستعانة المسلمين بالكفار جائزة فى الجهاد للضرورة كضعف المسلمين ولو كان العدو من بغاة المسلمين.
لما روى الزهرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود فى حربه فأسهم لهم.
رواه سعيد. وإذا جازت الاستعانة بالكفار فى الجهاد فتجوز الاستعانة من المسلمين بهم فى غيره مما فيه مصلحة لعموم المسلمين بجامع أن كلا من المصالح العامة، وتكفير علماء أهل السنة والجماعة بالاستعانة بأهل البدع والأهواء ودخولهم فى مجالسهم واختلاطهم معهم فى هذه المصالح العامة لا يجوز شرعا.
وإن قال ابن مفلح فى الفروع إن الاستعانة بهم مختلف فيما، قيل بالجواز، وقيل بالمنع، بل مكفروا هؤلاء العلماء هم الكفار.
قال فى منتهى الإرادات وشرحه للبهوتى وعن الإمام أحمد أن الذين كفروا أهل الحق والصحابة - كفار قال المنقح وهو أظهر من القول بأنهم فسقة خوارج بغاة.
وقال فى الإنصاف والقول بتكفيرهم هو الصواب وهو الذى ندين الله به.
وقال ابن مفلح فى الفروع وعن الإمام أحمد أنهم كفار، وقال فى الترغيب والرعاية إنه الأشهر.
وذكر ابن حامد أنه لا خلاف فيه وفى الحديث الشريف الصحيح (إن من كفر أحدا بلا تأويل فقد كفر) وقال الشيخ برهان الدين الحلبى ومن كفر أخاه المسلم بغير تأويل فهو كافر يجب عليه تجديد الإسلام والتوبة من ذلك وتجديد نكاحه إن لم يدخل بزوجته، وكذا إن دخل بها عند أبى حنيفة.
وأما عندنا فالعصمة باقية إن عاد إلى الإسلام بالتوبة قبل انقضاء العدة.
فيجب على المسلم أن يصون من التكفير بغير موجب قطعي كل فرد من أفراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومرتكب ذلك لغرض نفسه لاريب هو من الضالين الممقوتين والله ولى المتقين وقد روى أبو داود بإسناده عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث من أصل الإيمان الكف عمن قال لا إله إلا الله لا نكفره بذنب ولا نخرجه عن الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثنى الله إلى أن يقاتل آخر أمتى الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار.
والله أعلم. ما كتبه الأستاذ الفاضل الحنفى قال الله تعالى فى كتابه العزيز {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} المائدة 2، وقال عز من قائل {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} آل عمران 103، وقال مخاطبا لصفوته من خلقه {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} النحل 125، وقال فى محكم آياته {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} الممتحنة 8، وهى آية محكمة لم تنسخ على ما عليه أكثر أهل التأويل.
وقال صلى الله عليه وسلم (المؤمن إلف مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف) وقال عليه السلام (إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) وهو فى الصحيحين.
إذا تمهد هذا. فنقول أما تكفير المؤمن، فإن مذهب أهل الحق عدم جوازه بارتكاب ذنب ليس من الكفر إن صغيرا كان الذنب أو كبيرا عالما كان مرتكبه أو جاهلا، وسواء كان من أهل البدع والأهواء أولا، نص عليه عبد السلام شارح الجوهرة عند قول المصنف فلا نكفر مؤمنا بالوزر وقال فى الدر من باب المرتد لا يفتى بالكفر بشىء من ألفاظه إلا فيما اتفق المشايخ عليه.
وقال فى جامع الفصولين لا يخرج الرجل من الإيمان إلا جحود ما أدخله فيه، وما يشك فى أنه ردة لا يحكم به إذ الإسلام الثابت لا يزول بالشك مع أن الإسلام يعلو وينبغى للعالم إذا رفع إليه هذا ألا يبادر بتكفير أهل الإسلام.
وقال فى الفتاوى الصغرى الكفر شىء عظيم فلا أجعل المؤمن كافرا متى وجدت رواية أنه لا يكفر.
وقال فى الخلاصة وغيرها إذا كان فى المسألة وجوه وتوجب التكفير ووجه واحد يمنعه، فعلى المفتى أن يميل إلى الوجه الذى يمنع التكفير تحسينا للظن بالمسلم.
وقال فى التتار خانية لا يكفر بالمحتمل لأن الكفر نهاية العقوبة، فيستدعى نهاية الجناية، ومع الاحتمال لانهاية وفى رد المحتار من باب البغاة ما يفيد إجماع الفقهاء المجتهدين على عدم تكفير أهل البدع.
قال وإن ما يقع من تكفير أهل مذهب لمن خالفهم ليس من كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون، بل من غيرهم، ولا عبرة بغير الفقهاء، وفى الدر وحواشيه من باب الإمامة من كان من قبلتنا لا يكفر بالبدعة، حتى الخوارج الذين يستحلون دماءنا وأموالنا وسب أصحاب الرسول صلى الله عليه سلم غير الشيخين وينكرون صفاته تعالى وجواز رؤيته لكونه عن تأويل وشبهه والمراد بالخوارج من خرج عن معتقد أهل الحق، لا خصوص الفرقة التى خرجت على على، فيشمل المعتزلة والشيعة وأما الاستعانة بالكفار وبأهل البدع والأهواء على نصرة الملة الإسلامية فهذا مما لا شك فى جوازه وعدم خطره، يرشد إلى ذلك الحديث الصحيح المار ذكره (إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) وقال صلى الله عليه وسلم (إن الله ليؤيد الإسلام برجال ماهم من أهله) وقال فى الدر المختار من كتاب الغنائم عند قول المصنف أو دل الذمى على الطريق ومفاده جواز الاستعانة بالكافر عند الحاجة.
وقد استعان عليه الصلاة والسلام باليهود على اليهود ورضخ لهم، وفى شرح العين على البخارى أن النبى عليه الصلاة والسلام استعان بصفوان ابن أمية فى هوازن واستعار منه مائة درع وهو مشرك وفى المحيط من كتاب الكسب ذكر محمد فى السير الكبير لا بأس للمسلم أن يعطى كافرا حربيا أو ذميا وأن يقبل الهدية منه لما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم بعث خمسمائة دينار إلى مكة حين قحطوا وأمر بدفعها إلى أبى سفيان بن حرب وصفوان بن أمية ليفرقاها على فقراء مكة.
ولأن صلة الرحم محمودة فى كل دين. والأهداء إلى الغير من مكارم الأخلاق وفى شرح السير الكبير للسرخسى لا بأس أن يصل الرجل المسلم المشرك قريبا كان أو بعيدا محاربا كان أو ذميا، وفى الدر المختار من كتاب الوصايا أوصى حربى أو مستأمن لا وراث له هنا بكل ما له لمسلم صح.
وكذا لو أوصى له مسلم أو ذمى جاز.
ثم قال وصاحب الهوى إذا كان لا يكفر فهو بمنزلة السلم فى الوصية.
وقال الفخر الرازى فى تفسير قوله تعالى {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم} الممتحنة 9، إلى قوله تعالى {أن تولوهم} قال أهل التأويل هذه الآية تدل على جواز البر بين المشركين والمسلمين وإن كانت الموالاة منقطعة.
وفى البخارى ما يدل على وصية عمر رضى الله عنه بالقتال عن أهل الذمة وأن لا يكلفوا إلا طاقتهم.
هذه هى نصوص الفقهاء وأصحاب الحديث وأهل التفسير فى وجهى السؤال.
وبها تندفع كل شبهة فى عمل هؤلاء الموفقين لخير أهل الملة الحنيفية السمحاء العاملين فى تحصيل الائتلاف والاتفاق بين فرق أهل الإسلام الداخلين بتربية أيتام المسلمين فى قوله صلى الله عليه وسلم كما فى صحيح البخارى (أنا وكافل اليتيم فى الجنة هكذا وقال بإصبعيه السبابة والوسطى) المجاهدين بعملهم هذا لإعلاء كلمة الله ونصرة الموحدين ولا يمنع من صحة عملهم دخولهم فى مجالس أهل البدع واختلاطهم معهم فى هذه المصالح العامة متى كانت نيتهم تحصيل ذلك الخير العام.
فإن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.
والله أعلم. هذا ما ذكره هؤلاء الأفاضل ثم نقول.
المطلع على ما نقله حضرات الأساتذة من علماء الأزهر من نصوص الكتاب والسنة وأقوال الأئمة والعلماء من أهل المذاهب الأربعة يعلم حق العلم أن ما يفعله أولئك الأفاضل دعاة الخير هو الإسلام ومن أجل مظاهر الإيمان وأن الذين يكفرونهم أو يضللونهم هم الذين تعدوا حدود الله وخرجوا عن أحكام دينه القويم.
أولئك الدعاة إلى الخير قاموا بأمر الله فى قوله {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} آل عمران 104، أما خصومهم فقد خالفوا نهى الله سبحانه وتعالى فى قوله {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} آل عمران 105، وإن كانوا يعتقدون كفر أولئك المؤمنين حقيقة فالمفتى به عند الحنفية أنهم يكفرون بذلك لاعتدادهم الإيمان وأعماله كفرا وهو جحود لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
وإن كانوا يقولون ذلك نبذا بألسنتهم فأخف حالهم أن يدخلوا فى الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا وقد قال الله فيهم {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا لهم عذاب أليم فى الدنيا والآخرة} النور 19، لأنهم يضللون من يؤمن بالله واليوم الآخر وبما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويرمونهم بالفسق فى أعمالهم وهو إشاعة الفاحشة فى الذين آمنوا وما أعظم الوعيد عليه فى قوله تعالى {لهم عذاب أليم فى الدنيا والآخرة} النور 19، فهو من فظائع الكبائر بقى أن بعض الجهلة المتشدقين ربما تعرض لهم الشبهة فى فهم قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم} آل عمران 118، إلى آخر الآية، وقوله تعالى {ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون} المجادلة 14، وقوله تعالى {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} المجادلة 22، وقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا فى سبيلى وابتغاء مرضاتى تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل} الممتحنة 1، وما لم أتذكره مما قد يكون فاتنى من الآيات التى تصرح أو تشير إلى المنع من موادة المؤمنين لغير المؤمنين على أنه لا شبهة لهؤلاء الجهلة فى مثل هذه الآيات تسوغ لهم تفسيق إخوانهم أو تكفيرهم بعدما جاء فى الآية المحكمة من قوله تعالى {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين.
إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} الممتحنة 8، 9، وبعدما جاء فى القصص الذى قصه الله علينا لتكون لنا فيه أسوة إذ قال تعالى {وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفا} لقمان 15، وبعدما أباح الله لنا فى آخر ما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم نكاح الكتابيات ولا يكون نكاح فى قوم حتى تكون فيهم قرابة المصاهرة ولا تكون تلك القرابة حتى تكون المودة.
وحقيقة ما جاء فى الآيات الدالة على النهى عن موالاة غير المؤمنين أو مودة الفاسقين والمحادين لله تعالى أنه نهى عن الموالاة فى الدين ونصرة غير المؤمن على المؤمن فيما هو من دينه وإمداد الفاسق بالمعونة على فسقه، وعن اتخاذ بطانة من غير المؤمنين يكون من صفتها أنها تبذل وسعها فى خذلانهم وإيصال الضرر إليهم فيكون إدلاء المؤمنين إليها بأسرارهم وغلب الظن بالمنفعة ولم يكن فى الموادة معونة على تعدى حدود الله ومخالفة شرعه فلا حظر فى الاستعانة بمن لم يكن من المسلمين أو لم يكن من الموفقين الصالحين ممن يسمونهم أهل الأهواء، فإن طالب الخير يباح له بل ينبغي له أن يتوسل إليه بأية وسيلة توصل إليه ما لم يخالطها ضرر للدين أو للدنيا.
وقد بينت السنة وعمل النبى صلى الله عليه وسلم ما صرح به الكتاب فى قوله تعالى {لا ينهاكم الله} الخ ولقد كانت لنا أسوة حسنة فى استعانة رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفوان بن أمية فى حرب هوازن وفى غيرها من الوقائع كما هو معروف فى السنة ثم كان فى سيرة الخلفاء الراشدين من لدن عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى على كرم الله وجهه ما فيه الكفاية لمسترشد إذا استرشد فقد أنشأ عمر رضى الله عنه الديوان ونصب العمال واحتاج المسلمون إلى من يقوم فى العمل فى حساب الخراج وما ينفق من بيت المال واحتاجوا إلى كتاب المراسلات والقوم أميون لا يستطيعون القيام بما كان يطلبه العمل من العمال فوضعوا ذلك كله فى أيدى أهل الكتاب من الروم وفى أيدى الفرس ولم يزل العمل على ذلك فى خلافة بنى أمية بعد الراشدين إلى زمن عبد الملك بن مروان، ولا شك فى أن هذا استعانة بغير المسلمين على أعمال هى من أهم أعمالهم، فكيف ينكر هؤلاء الجهال جواز تلك الاستعانة، بل قد استعان كثير من ملوك المسلمين بغير المسلمين فى حروبهم، وإنا نذكر ما قاله ابن خلدون فى ذلك كله.
قال فى باب ديوان الأعمال والجبايات وأما ديوان الخراج والجبايات فبقى بعد الإسلام على ما كان عليه من قبل ديوان العراق بالفارسية، وديوان الشام بالرومية، وكتاب الدواوين من أهل العهد من الفريقين، ولما جاء عبد الملك.
ابن مروان واستحال الأمر ملكا وانتقل القوم من غضاضة البداوة إلى رونق الحضارة ومن سذاجة الأمية إلى حذق الكتابة وظهر فى العرب ومواليهم مهرة فى الكتابة والحسبان فأمر عبد الملك سليمان بن سعد وإلى الأردن لعهده أن ينقل ديوان الشام إلى العربية فأكمله لسنة من يوم ابتدائه ووقف عليه سرحون كاتب عبد الملك فقال لكتاب الروم اطلبوا العيش فى غير هذه الصناعة فقد قطعها الله عنكم، وأما ديوان العراق فأمر الحجاج كاتبه صالح بن عبد الرحمن وكان يكتب بالعربية والفارسية ولقن ذلك عن زادن فروخ كاتب الحجاج قبله.
ولما قتل زادان فى حرب ابن الأشعث استخلف الحجاج صالحا هذا مكانه وأمره أن ينقل الديوان من الفارسية إلى العربية ففعل ورغم لذلك كتاب الفرس.
وقال فى الكلام على الوزارة وأما حال الجباية والإنفاق والحسبان فلم يكن عنده برتبة، لأن القوم كانوا عربا أميين لا يحسنون الكتابة والحساب فكانوا يستعملون فى الحساب أهل الكتاب أو أفرادا من موالى العجم ممن يجيده وكان قليلا فيهم، وأما أشرافهم فلم يكونوا يجيدونه، لأن الأمية كانت صفتهم التى امتازوا بها، وكذا حال المخاطبات وتنفيذ الأمور لم يكن عندهم رتبة خاصة للأمية التى كانت فيهم، والأمانة العامة فى كتمان القول وتأديته، ولم تخرج السياسة إلى اختياره لأن الخلافة إنما هى دين ليست من السياسة الكلية فى شىء وأيضا فلم تكن الكتابة صناعة فيستجاد للخليفة أحسنها لأن الكل كانوا يعبرون عن مقاصدهم بأبلغ العبارات ولم يبق إلا الخط فكان الخليفة يستنيب فى كتابته من عماله من يحسنه.
وقال فى الحروب ومذاهب الأمم فى ترتيبها فصل ولما ذكرناه من حرب المصاف وراء العساكر وتأكده فى قتال الكر والفر صار ملوك المغرب يتخذون طائفة من الإفرنج فى جندهم واختصوا بذلك لأن قتال أهل وطنهم كله بالكر والفر، والسلطان يتأكد فى حقه ضرب المصارف ليكون ردءا للمقاتلة أمامه فلابد وأن يكون أهل ذلك الصف من قوم متعودين للثبات فى الزحف وهم الإفرنج ويرتبون مصافهم المحدق بهم فها هنا على ما فيه من الاستعانة بأهل الكفر.
وإنما استخفوا ذلك للضرورة التى أريناكها من تخوف الإجفال على مصاف السلطان والإفرنج لا يعرفون غير الثبات فى ذلك لأن عادتهم فى القتال الزحف فكانوا أقوم بذلك من غيرهم، ثم جاء فى الأحكام السلطانية لقاضى القضاة ابن الحسن على بن محمد بن حبيب البصرى البغدادى فى الكلام على وزارة التنفيذ وهذا الوزير وسط بين الإمام وبين الرعايا والولاة يؤدى عنه ما أمر وينفذ عنه ما ذكر ويمضى ما حكم ويخبر بتقليد الولاة وتجهيز الجيوش ويعرض عليه ما ورد من مهم وتجدد فى حدث ملم ليعمل فيه ما يؤمر به، فهو معين فى تنفيذ الأمور وليس بوال عليها ولا متقلدا لها، فإن شورك فى الرأى كان باسم الوزارة أخص، ثم قال ويجوز أن يكون هذا الوزير من أهل الذمة، وإن لم يجز أن يكون وزير التفويض منهم واستعانة الخلفاء من بنى أمية وبنى العباس بأرباب العلوم والفنون من الملل المختلفة فيما هو من فنونهم مما لا يمكن لصبى يعرف شيئا من تاريخ الأمة إنكاره وقد كانوا يستعينون بهم على أعين الأئمة والعلماء والفقهاء والمحدثين بدون نكير، فقد قامت الأدلة من الكتاب والسنة وعمل السلف على جواز الاستعانة بغير المؤمنين وغير الصالحين على ما فيه خير ومنفعة للمسلمين وأن الذين يعمدون إلى هذه الاستعانة لجمع كلمة المسلمين وتربية أيتامهم وما فيه خير لهم لم يفعلوا إلا ما اقتضته الأسوة الحسنة بالنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأن من كفرهم أو فسقهم فهو بين أحد الأمرين إما كافر أو فاسق.
فعلى دعاة الخير أن يجدوا فى دعوتهم وأن يمضوا على طريقتهم، ولا يحزنهم شتم الشاتمين، ولا يغيظهم لوم اللائمين.
فالله كفيل لهم بالنصر إذا اعتصموا بالحق والصبر.
والله أعلم.
ے