وقد بدأ صحيحه -بعد المقدمة التي هي في الوحي- بكتاب الإيمان، ثم قال: (وهو قول وفعل، يزيد وينقص) ولم يذكر الاعتقاد؛ لأنه لا خلاف في الاعتقاد، ولما لم يكن لا خلاف في الاعتقاد خلاف أغفله، وذكر ما فيه الخلاف؛ وهو القول والفعل، أي أن الإيمان تدخل فيه الأقوال والأفعال، ثم يترتب على ذلك كمال الإيمان ونقصانه وزيادته.

وكثير من الحنفية والأشاعرة ونحوهم يعتقدون أن الإيمان واحد، وأنه لا يتفاوت، وأن الناس فيه مستوون وذلك لأنهم متفاوتون في العقيدة وقوة اليقين، ومتفاوتون في أثر تلك العقيدة على العباد، وإذا كانوا متفاوتين دل على أن الإيمان يتفاوت.

فنحن نعرف أنه قد يكون هناك إنسان رزقه الله علماً وقراءة وتدبراً، أقبل على السنة، وعلى الحديث، وعلى القرآن، وأخذ يتأمل وقامت عنده الأدلة، ورسخت في قلبه أدلة الوحدانية وأدلة الربوبية، وأدلة البعث والنشور، وأدلة الأعمال والأحكام، وأدلة الرسل والإيمان بهم، والملائكة ونحوهم؛ رسخت في قلبه، وكان من آثار رسوخها أن انبعثت جواحه بالعمل فلا ينطق إلا بالذكر ولا يسمع إلا الخير ولا يبصر إلا ما فيه خير، وكان سكوته ذكراً ونطقه ذكراً وعمله خيراً، كل ذلك من آثار ما رسخ في قلبه من تلك الأدلة.

وهناك آخر ما سمع إلا القليل، ولا اهتم إلا بالقليل من السنة، ولم يتعلم إلا أطراف المعلومات، ومع ذلك امتلأ قلبه باللهو والسهو وزينة الدنيا وزخرفها والميل إليها، وامتلأ قلبه بمحبة الشهوات، فإذا رأيته لا ستمعه يذكر الله إلا قليلاً ولا ترى جوارحه تنطلق إلا قليلاً بالأعمال الصالحة، بل وضد ذلك لا يذكر إلا ما يشتهيه وما يميل إليه، ولا ينطلق إلا إلى هوى نفسه، وأعماله الصالحة قليلة، فهل يقال: إن أعمال هذا وأعمال هذا مستويات؟ الذي يقول ذلك ليس له فكر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015