وبكل حال هذا هو القول الواضح، ومع ذلك فإنهم أنكروا صفة العلو مع كثرة ما عليها من الأدلة ووضوحها، حتى إن بعض الأشاعرة رد على ابن القيم في النونية ومنهم السبكي، ثم إن زاهداً اكلوثري حقق هذا الرد الذي على ابن القيم، وقدم له مقدمة بشعة أخذ يسبه فيهان ويصفه بصفات تصل إلى الكفر -والعياذ بالله- كفّره وفسّقه، وشتمه، ولعنه، ودعا عليه، وشنع به، وما ذاك إلا لأنه يعجز الكوثري وأمثاله أن يتأولوا هذه الأدلة، وأن يردوها، فلما رآها صريحة، ورأى أن الذين ردوا عليه تكلفوا في ذلك، لم يكن بدٌ من أن يحمل عليه.

أما هذا الأثر عن مالك، فهو مشهور عنه أنه جاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله: أرأيت قول الله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) (طه:5) كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء -يعني العرق- ثم رفع رأسه فقال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً) ثم أمر به فأخرج، هكذا رُوي عن مالك رحمه الله واشتهر عنه، وانتشر.

وهكذا أيضاً روي عن شيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن؛ من علماء المدينة، وهو من مشاهير العلماء أنه قال في الاستواء: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم) . مقالة يا لها من مقالة حكيم، وعلوم لا تصدر إلى عن علم راسخ.

وقد رُوي هذا عن أم سلمة إحدى أمهات المؤمنين أنها قالت، (الاستواء معلوم، والكيف مجهول.. إلى آخره) ، ورواه بعضهم عن أم سلمة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لا يصح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وصحته إنما هي عن مالك وعن شيخه، ولا شك أن هذا قول الأئمة كلهم؛ يقرون بأن الله تعالى على العرش استوى، وأن الاستواء معلوم غير مجهول، ومعلوم يعني مفهوم له معنى مدرك، معناه واضح يفسر ويبين، ويفهم، ويترجم من لغة إلى لغة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015