ثم أخبر بأن الذين بعدهم انقسموا إلى قسمين: قسم قصروا، وقسم غلوا، الذين قصروا كأنهم الذين اقتصروا على ذكر الأحكام فقط، ولم يخوضوا في العلوم الغيبية، ولم يتكلموا فيها معرضين عنها بألسنتهم وبقلوبهم، فهؤلاء مقصرون، والذين غلوا هم الذين توسعوا فيها وتكلموا فيها كلاماً طويلاً، وولدوا فيها توليدات، ووقعوا في آخر أمرهم في حيرة وفي شك، وفي بعد عن الحق، فأدى بهم ذلك إلى أن يموتوا وهم شكاك لا يدرون ما يعتقدونه، فصاروا في طرفي نقيض؛ قوم قصروا، وقوم غلوا..
وتوسط الصحابة، وتوسط الأئمة، فلم يتركوا هذه العلوم جانباً بل تكلموا فيها بما يكفي، وقالوا فيها ما يشفي، وأوضحوا منها ما هو الحق، فأوضحوا للأمة عقيدتهم، أوضحوا للأمة أن تعتقد الأسماء والصفات التي نقلت وثبتت بالأدلة، وأوضحها الله تعالى في الكتاب والسنة، وأن ينزه الله تعالى عن صفات النقص، وأن يُعتقد البعث النشور والجزاء على الأعمال، وأن يدينوا بالعبادات ويتركوا المحرمات، وكفى بذلك بياناً، والذين لم يتكلموا فيها مقصرون.
روي أن بعض التلامذة سألوا ابن المبارك، وقالوا: إنا نكره أن نتكلم في هذه الصفات؛ يعني في إثبات العلو والاستواء، والنزول، وما أشبه ذلك -فقال: أنا أكره منكم لها، ولكن لما جاءت بها النصوص واشتملت عليها الأدلة تجرأنا على الكلام بها، وجسرنا على أن نقولها اعتماداً على الدليل، وكفى بالآيات دليلاً، أو كما قال. فأخبر بأنا قد نتوقف عندما تذكر لنا بعض الصفات التي لا دليل عليها، فإذا وجدنا لها دليلاً تكلمنا عليها بجراءة ولم نخف.