وكفى أنه يستشهد بقوله، وذلك لأنه جمع مع الولاية علماً، أي أنه مع قصر عمره من علماء الأمة، وكذلك من مفكريها ومن ذوي الرأي فيها، وكثيراً ما يستشهدون بمقاله، ويروون عنه حكماً وفوائد تدل على حنكة وفضل، ومعرفة بالشريعة وبأهدافها.

يقول في هذا الأثر (قف حيث وقف القوم) يريد بالقوم العلماء الذين قبلهم، يخاطب أهل زمانه إما في خلافته، وإما في إمارته، فقد كان أميراً على المدينة قبل أن يستخلف، أي في زمن الوليد بن عبد الملك، ولاه إمارة المدينة فسار فيهم سيراً حسناً محموداً، فهو يقول: (قف حيث وقف القوم) أي الصحابة، وتلامذة الصحابة؛ العلماء الذين هم علماء الأمة؛ ورثة النبي صلى الله عليه وسلم.

كأنه يقول: لا تتجاوزوهم وتخوضوا في ما لم يخوضوا فيه، ولا تتقعروا وتبحثوا عن أشياء ما أذن الله بها، وليس لكم إلى معرفتها سبيل، فلا تبحثوا في الأمور الغيبية التي حُجبت عنكم، ولا تكثروا من السؤال عن الأشياء التي لا حاجة لكم بها، فقد وقف عنها من قبلكم فما بحثوا في جوهر، ولا عرض، ولا حد، ولا تعاريف، ولا حيز، ولا جهات، ولا أبعاض، ولا مركبات، ولا محدثات وما أشبه ذلك من الأمور التي أحدثتموها.

فإنهم -يعني الصحابة، وتابعيهم- عن علم وقفوا؛ يعني سكتوا عن هذه الأشياء عن علم، عرفوا أن فيها خطراً، فلم يتكلموا فيها، فما وقفوا إلا عن علم قلبي وقر في قلوبهم، (وببصر نافذ كفوا) كف البصر هنا ليس هو بصر العين، ولكنه بصر القلب يعني البصيرة، أي أن ذلك البصر نافذ لهذه العلوم، وقد تخيل ما وراءها من المفاسد.

فكر -رضي الله عنه- فعرف أن الصحابة وتلامذتهم كفوا عن الخوض في هذه العلوم -مع قدرتهم عليها- عن علم، لا أنها لم تحدث عندهم بل عرفوا أنها ستكون، ولكنهم وقفوا عنها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015