ولا شك أن هذا دليل على غربة السنة في تلك القرون؛ القرن الرابع والقرن الخامس وما بعدهما. وبالتتبع لهذه القرون: الرابع والخامس والسادس وأغلب السابع لا تجد فيها من هو على مذهب السنة إلا من هو مستخفٍ، ولو كان حنبلياً، وما ذاك إلا أنهم قرؤوا على مشايخ لهم، وأولئك المشايخ قرؤوا علم الكلام على علمائهم، ولما قرأوه تمكن من نفوسهم، وتمكنت هذه الشبهة التي هي إنكار صفة العلو، وإنكار الصفات الذاتية، وإنكار الكثير من الصفات الفعلية، فتمكنت من النفوس، فصار ذلك سبباً في انحرافهم عن عقيدة أهل السنة، وهم السلف والأئمة الأربعة الذين يقتدى بهم في الفروع فإنهم كلهم والحمد لله على معتقد واحد في الأصول.
ومع ذلك يفتخر كثير منهم بانتمائهم إليهم ويخالفونهم في أصل الأصول الذي هو باب العقيدة، فتجدهم يقولون: نحن على مذهب الشافعي، ولكن في باب العقيدة على مذهب الأشعري، ولا يتمسكون بمذهب الأشعري الصحيح، ولا بمذهب غيره من السلف، وإنما بالمذاهب التي تلقوها من مشايخهم المتأخرين، الذين تلقوا هذه العلوم من المتكلمين.
ولا شك أن أولئك لما كثر الخوض منهم في علم الكلام، وفي التدقيق في تلك المسائل الخفية كانت لها نتيجة سيئة، وهي أنها أوقعت كثيراً منهم في الحيرة، تحيروا ماذا يعتقدون؟، وما هي العقيدة التي تنجيهم؟
ذكر شيخ الإسلام في أول الحموية، وابن أبي العز في شرح الطحاوية قصصاً لبعض أولئك الحيارى المتهوكين؛ منها قصة الرازي من علماء المتكلمين وهو أبو عبد الله، ويقال له: ابن الخطيب صاحب التفسير الكبير، وصاحب تأسيس التقديس الذي رد عليه شيخ الإسلام بكتابه (نقض التأسيس) ذكر أنه إما أنشأ أبياتاً، وإما استشهد بها، وهي التي يقول فيها:
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال