ومع كثرة هذه الكتب مما ذكرنا، وغيرها كثير، لما انقضى القرن الثالث آخر القرون المفضلة أميتت هذه الكتب مع الأسف، وأصبحت مخزونة لا يعترف بها ولا تُقرأ، ولا تُدرَّس إلا نادراً وبصفة خفية، وتمكن مذهب الأشاعرة ومذهب المعتزلة أيما تمكن، وانتشر الإكباب عليه، وكثرت الدروس والكتب التي تؤلف فيما يتعلق بهذه العقائد؛ عقيدة الأشعرية وعقيدة المعتزلة، وكادت السنة وكتبها أن لا يكون لها ذكر، بل كاد مذهب الإمام أحمد أن يضمحل، ولم يبق أحد عليه إلا قلة.
وفي آخر القرن الرابع وأول القرن الخامس بدأ يظهر مذهب الإمام بسبب القاضي أبي يعلى رحمه الله، فإنه لما اعتنق هذا المذهب وتولى القضاء، وكان عالما جليلا، وكان من أبرز أهل زمانه، ولم يوجد للقضاء من يتولاه مثله أظهر هذا المذهب.
ومع ذلك فإنه هو وأساتذته الذين قرأ عليهم في بعض الكلام قد تأثروا بشبه المتكلمين، ولكن لما كان على مذهب الإمام أحمد لم يرد ما روى عنه، فألف رسالة فيما يتعلق بصفة العلو وأملاها على تلامذته، ولما كتبها وأملاها قامت الدنيا، وأنكر عليه أهل زمانه، وقالوا: القاضي أبو يعلى ممثلٌ، القاضي مشبه، وكادوا يسعون في إبعاده وعزله، فاعتذر أنه إنما نقل كلام غيره، والرد لا يكون عليه بل يكون على غيره، على الذين نقل عنهم؛ وأما هو فإنه ناقل.