فتاوي السبكي (صفحة 78)

الْمَخْصُوصِ لَا مُطْلَقُ التَّرْكِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ " أَنْ يَقُولُوا " تَعْلِيلًا لِحَسِبَ. وَيَكُونُ " أَحَسِبَ " هُوَ الْعَامِلُ فِيهِ. وَأَنْ يَكُونَ {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] حَالًا مِنْ " يَقُولُوا " وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: إنَّ " أَنْ يُتْرَكُونَ " أَوَّلُ مَفْعُولَيْ " أَحَسِبَ " لَا دَلِيلَ لَهُ. وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ النُّحَاةِ يَرُدُّهُ، لِأَنَّهُمْ أَطْلَقُوا إنَّ " أَنْ " وَصِلَتَهَا سَادَّةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، أَوْ أَنَّ الثَّانِيَ مَحْذُوفٌ وَقَوْلُهُ: تَقْدِيرُهُ " أَحَسِبُوا تَرْكَهُمْ " حَمَلَهُ عَلَيْهِ قَوْلُ النُّحَاةِ: إنَّ " أَنْ " وَالْفِعْلَ فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، وَلَكِنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فَإِنَّ " أَنْ " وَالْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ، وَهُوَ مَعْنًى تَصْدِيقِي، بِخِلَافِ الْمَصْدَرِ الصَّرِيحِ وَدَلَالَتُهُ عَلَى الْمَعْنَى التَّصَوُّرِيِّ فَقَطْ، وَجَعْلُهُ التَّرْكَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ لَا دَلِيلَ لَهُ. وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ وَلِغَيْرِهِ. وَالْبَيْتُ الَّذِي أَنْشَدَهُ مُحْتَمِلٌ لَهُمَا. وَقَوْلُهُ فِي كَلَامِهِ غَيْرُ مَفْتُونِينَ يَحْتَمِلُ الْمَفْعُولَ وَالْحَالَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَبَكَهُ مِنْ قَوْلِهِ {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] وَعِنْدَهُ أَنَّ " أَنْ يَقُولُوا " خَبَرٌ، فَهُوَ أَجْنَبِيٌّ فَاصِلٌ بَيْنَ أَبْعَاضِ الصِّلَةِ. وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَالْأَمْثِلَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ " خُرُوجِهِ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ " وَ " خَرَجْت مَخَافَةَ الشَّرِّ " وَ " حَسِبْت خُرُوجَهُ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ " لَيْسَتْ نَظِيرَ الْآيَةِ لِاحْتِمَالِ الْآيَةِ وَتَعَيُّنِ ذَكَرِ وَاحِدٍ مِمَّا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَمْثِلَةِ لِمَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَضِيَ عَنْهُ {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} [العنكبوت: 2] قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْحُسْبَانُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِمَعَانِي الْمُفْرَدَاتِ وَلَكِنْ بِمَضَامِينِ الْجُمَلِ، أَلَا تَرَى أَنَّك لَوْ قُلْت: حَسِبْت زَيْدًا، وَظَنَنْت الْفَرَسَ، لَمْ يَكُنْ شَيْئًا حَتَّى تَقُولَ: حَسِبْت زَيْدًا عَالِمًا، وَظَنَنْت الْفَرَسَ جَوَادًا، لِأَنَّ قَوْلَك: زَيْدٌ عَالَمٌ أَوْ الْفَرَسُ جَوَادٌ، كَلَامٌ دَالٌّ عَلَى مَضْمُونٍ، فَأَرَدْت الْإِخْبَارَ عَنْ ذَلِكَ الْمَضْمُونِ ثَابِتًا عِنْدَك عَلَى وَجْهِ الظَّنِّ لَا الْيَقِينِ، فَلَمْ تَجِدْ بُدًّا فِي الْعِبَارَةِ عَنْ ثَبَاتِهِ عِنْدَك عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ: مِنْ ذِكْرِك شَطْرَيْ الْجُمْلَةِ: مُدْخِلًا عَلَيْهِمَا فِعْلَ الْحُسْبَانِ حَتَّى يَتِمَّ لَك غَرَضُك (فَإِنْ قُلْت) فَأَيْنَ الْكَلَامُ الدَّالُ عَلَى الْمَضْمُونِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحُسْبَانُ فِي الْآيَةِ؟ (قُلْت) هُوَ فِي قَوْلِهِ {أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] وَذَلِكَ أَنَّ تَقْدِيرَهُ أَحَسِبُوا تَرْكَهُمْ غَيْرَ مَفْتُونِينَ لِقَوْلِهِمْ آمَنَّا. فَالتَّرْكُ أَوَّلُ مَفْعُولَيْ " أَحَسِبَ " وَلِقَوْلِهِمْ آمَنَّا هُوَ الْخَبَرُ وَأَمَّا " غَيْرَ مَفْتُونِينَ " فَتَتِمَّةُ التَّرْكِ لِأَنَّهُ مِنْ التَّرْكِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ، كَقَوْلِهِ

فَتَرَكْته جَزْرَ السِّبَاعِ يَنُشْنَهُ

أَلَا تَرَى أَنَّك قَبْلَ الْمَجِيءِ بِالْحُسْبَانِ تُقَدِّرُ أَنْ تَقُولَ تَرْكَهُمْ غَيْرَ مَفْتُونِينَ لِقَوْلِهِمْ آمَنَّا عَلَى تَقْدِيرٍ حَاصِلٍ وَمُسْتَقِرٍّ قَبْلَ اللَّامِ (فَإِنْ قُلْت) " أَنْ يَقُولُوا " هُوَ عِلَّةُ تَرْكِهِمْ غَيْرَ مَفْتُونِينَ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ؟ (قُلْت) كَمَا تَقُولُ خُرُوجُهُ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ، وَضَرْبُهُ لِلتَّأْدِيبِ وَقَدْ كَانَ التَّأْدِيبُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015