فتاوي السبكي (صفحة 77)

مَدْلُولُهُ إلَّا ذَلِكَ وَحُدُوثُ الضَّرْبِ فِي الْمَاضِي نِسْبَةٌ تَسْتَدْعِي الضَّرْبَ الْحَادِثَ وَالزَّمَانَ الْمَاضِيَ، فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ دَلَالَتَهَا عَلَيْهِمَا مِنْ بَابِ دَلَالَةِ التَّضَمُّنِ، وَفِيهِ تَسَمُّحٌ، وَأَكْثَرُ النُّحَاةِ جَعَلُوا دَلَالَةَ الْفِعْلِ عَلَى الزَّمَانِ مِنْ دَلَالَةِ التَّضَمُّنِ وَابْنُ الطَّرَاوَةِ قَالَ إنَّهَا بِالِانْحِرَارِ يَعْنِي الِالْتِزَامَ، وَكُلُّهُمْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْحُدُوثِ وَعِنْدِي أَنَّهُ الْأَصْلُ وَالْمَوْضُوعُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالْحُصُولِ أَوْ الْحُدُوثِ أَوْ الْكَوْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَارَةً يُؤْخَذُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ مِنْ غَيْرِ عَارِضٍ بِمَاهِيَّةٍ وَتَارَةً يُؤْخَذُ مَعَ عُرُوضِهِ لِلْمَاهِيَّةِ فَالْأَوَّلُ تَصَوُّرٌ مَحْضٌ، وَاخْتِيرَ لَهُ اسْمُ الْحُصُولِ لِيَتَطَابَقَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى فِي الْإِفْرَادِ، وَالثَّانِي فِيهِ نِسْبَةٌ هِيَ الْمَقْصُودَةُ فِي التَّصْدِيقِ الْمُرَكَّبِ مِنْهَا وَمِنْ الطَّرَفَيْنِ فَلَا يَبْقَى يَحْتَاجُ إلَّا إلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ وَاخْتِيرَ لَهُ " أَنْ وَالْفِعْلُ " لِلدَّلَالَةِ عَلَى النِّسْبَةِ مَعَ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَلَوْ أُطْلِقَ الْحُصُولُ وَأُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَبْعُدْ، وَلَوْ أُطْلِقَ " أَنْ وَالْفِعْلُ " وَأُرِيدَ الْمُفْرَدُ كَانَ بَعِيدًا. هَذَا الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَلَسْنَا فِيهِ مُتَحَكِّمِينَ وَلَا مُنْكِرِينَ أَمْرًا لَمْ نَصِلْ إلَى فَهْمِهِ بَلْ مُثْبِتِينَ لِمَا فَهِمْنَاهُ مِنْ كَلَامِهِمْ وَأَرْشَدَتْنَا إلَيْهِ مُحَاوَرَاتُهُمْ وَإِنْ أَهْمَلُوا التَّنْصِيصَ عَلَيْهَا إحَالَةً عَلَى الْأَذْهَانِ السَّلِيمَةِ وَالِارْتِيَاضِ فِي الْعُلُومِ بِفِكْرَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ. فَإِنْ قُلْت: قَدْ قَالَ تَعَالَى {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] وَهُوَ مِثْلُ: وَصَوْمُكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ، وَلِذَلِكَ تَقُولُ: يُعْجِبُنِي أَنْ تَقُومَ فِي مَعْنَى يُعْجِبُنِي قِيَامُك. قُلْت قَوْله تَعَالَى (وَأَنْ تَصُومُوا) مَعْنَاهُ وَأَنْ يُوجَدَ مِنْكُمْ الصَّوْمُ، فَذَلِكَ الَّذِي يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ خَيْرٌ. وَأَمَّا الصَّوْمُ الْمُفْرَدُ التَّصَوُّرِيُّ فَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ يُعْجِبُنِي أَنْ تَقُومَ إنَّمَا أَعْجَبَك اتِّخَاذُهُ لِلْقِيَامِ فِي الْحَالِ أَوْ الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ مُجَرَّدِ صِفَةِ الْقِيَامِ فَإِنْ قُلْت لَوْ دَلَّ الْفِعْلُ عَلَى الْوُقُوعِ لَكَانَ كَلَامًا.

قُلْت الْكَلَامُ يَسْتَدْعِي مُسْنَدًا وَمُسْنَدًا إلَيْهِ وَنِسْبَةً، فَإِذَا قُلْت زَيْدٌ قَائِمٌ، فَزَيْدٌ مُسْنَدٌ إلَيْهِ وَقَائِمٌ مُسْنَدٌ، وَالنِّسْبَةُ عُلِمَتْ عِنْدَ السَّامِعِ بِقَرِينَةِ تَرْتِيبِ الْمُتَكَلِّمِ قَائِمٌ عَلَى زَيْدٍ؛ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالرَّابِطِ، فَتَقُولُ زَيْدٌ هُوَ قَائِمٌ؛ فَتَصِيرُ الْقَضِيَّةُ ثُلَاثِيَّةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ ثُنَائِيَّةً، وَإِذَا قُلْت قَامَ زَيْدٌ فَزَيْدٌ مُسْنَدٌ إلَيْهِ وَقَامَ فِيهِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا الْمُسْنَدُ؛ وَهُوَ الْقِيَامُ، دَلَّ عَلَيْهِ بِمَادَّتِهِ؛ وَالثَّانِي النِّسْبَةُ دَلَّ عَلَيْهَا بِصُورَتِهِ الَّتِي امْتَازَ الْفِعْلُ بِهَا عَنْ الِاسْمِ وَهِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْوُقُوعِ بِالزَّمَانِ الْمَاضِي؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى رَابِطٍ وَكَانَ فِي قُوَّةِ الْقَضِيَّةِ الثُّلَاثِيَّةِ الِاسْمِيَّةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ بَدَا لِي أَنْ أَخْتَصِرَ الْكَلَامَ عَلَى {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} [العنكبوت: 2] سَادَّةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ. و " أَنْ يَقُولُوا " تَعْلِيلٌ لَهُ {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] حَالٌ مِنْهُ، وَهُمَا مَعْمُولَانِ " لِيُتْرَكُوا " وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِهِمَا. وَالْمُنْكَرُ حُسْبَانُ التَّرْكِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015