فتاوي السبكي (صفحة 430)

كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَالْبَيْعُ اعْتَمَدَ رَقَبَةً مَسْلُوبَةَ الْمَنْفَعَةِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ فَكَيْفَ يُمْلَكُ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قُلْت لَا شَكَّ أَنَّ بَيْنَ طَلَاقِ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ فَرْقًا، وَالْعَوْدُ إلَى الْمُشْتَرِي فِي طَلَاقِ الْأَمَةِ، أَوْضَحُ وَلَا رِيبَةَ فِيهِ لِمَا قَالَهُ، أَمَّا الْإِجَارَةُ فَهِيَ فِي مَحَلِّ الِاحْتِمَالِ وَلَا يَنْتَهِي الْأَمْرُ فِيهَا إلَى تَصْحِيحِ الرُّجُوعِ إلَى الْبَائِعِ تَصْحِيحًا ظَاهِرًا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ الْإِلْحَاقُ بِوَجْهٍ آخَرَ خَفِيٍّ، وَإِنْ قَصُرَتْ رُتْبَتُهُ عَنْهُ فَقَدْ يَكُونُ حُكْمُ الْأَصْلِ أَظْهَرَ وَأَقْوَى مِنْ حُكْمِ الْفَرْعِ بِكَثِيرٍ.

وَعِنْدَ ذَلِكَ أَقُولُ: إنَّ الْإِجَارَةَ إذَا انْفَسَخَتْ بِرَدٍّ بِعَيْبٍ، أَوْ بِإِقَالَةٍ وَقُلْنَا: إنَّهَا فَسْخٌ، أَوْ غَيْرُهُمَا ارْتَفَعَ حُكْمُهَا؛ لِأَنَّ هَذَا مَعْنَى الْفَسْخِ سَوَاءٌ أَجَعَلْنَاهُ رَفْعًا مِنْ أَصْلِهِ، أَوْ مِنْ حِينِهِ وَمُقْتَضَى ارْتِفَاعِ الْعَقْدِ ارْتِفَاعُ أَحْكَامِهِ فَلَوْ أَعَدْنَا الْمَنَافِعَ إلَى الْبَائِعِ لَصَارَ مَالِكًا لَهَا بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَيْسَ مَالِكًا لِلرَّقَبَةِ، وَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ إنَّمَا تُمْلَكُ بِطَرِيقَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ تَابِعَةً لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَرَدَ عَلَيْهَا عَقْدٌ مِنْ إجَارَةٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ وَنَحْوِهِمَا، وَذَلِكَ الْعَقْدُ مُسْتَمِرُّ الْحُكْمِ، وَالْغَرَضِ هُنَا أَنَّهُ ارْتَفَعَ حُكْمُهُ فَكَيْفَ يَمْلِكُهَا الْبَائِعُ، نَعَمْ إنْ قُلْنَا بِجَوَازِ اسْتِثْنَاءِ الْمَنْفَعَةِ كَمَا قَالَهُ الْمَرَاوِزَةُ فَيَصِحُّ وَيَكُونُ مِلْكُهُ لِلْمَنْفَعَةِ حِينَئِذٍ بِعَقْدِهِ الْأَوَّلِ السَّابِقِ عَلَى بَيْعِهِ إنَّمَا نَقَلَ بَعْضَ حُكْمِهِ لَا جَمِيعَهُ فَلَا جَرَمَ يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَبِي زَيْدٍ؛ لِأَنَّهُ مَرْوَزِيٌّ، وَمِنْ الْقَاضِي وَالْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُمَا تَابِعَانِ لِطَرِيقَةِ الْمَرَاوِزَةِ، وَمِنْ صَاحِبِ الْبَحْرِ إذَا تَبِعَهُمْ، عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ، وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَرَاوِزَةِ وَلَمْ يَرْتَضِ إلْحَاقَ بَيْعِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ بِاسْتِثْنَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَمَالَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَهُ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، وَكَذَلِكَ الْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ.

وَقَالَ: إنَّ الْحُكْمَ بِفَسَادِ الِاسْتِثْنَاءِ لَا يُنَافِي إجْرَاءَ الْقَوْلَيْنِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، وَإِنَّ الْقِيَاسَ فَسَادُ الِاسْتِثْنَاءِ لَوْلَا وُرُودُ خَبَرٍ فِيهِ يُشِيرُ بِذَلِكَ إلَى حَدِيثِ جَابِرٍ وَاسْتِثْنَاءِ ظَهْرِ جَمَلِهِ إلَى الْمَدِينَةِ.

وَهَذَا الْخَبَرُ قَدْ أَجَابَ النَّاسُ عَنْهُ وَحَمَلُوهُ عَلَى مَحْمَلٍ صَحِيحٍ غَيْرِ ذَلِكَ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَالْإِمَامِ وَالرُّويَانِيِّ لَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَعَلَّقَ بِهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ بِصِحَّةِ بَيْعِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ مَعَ قَوْلِنَا بِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْمَنْفَعَةِ لَا يَصِحُّ فَلَا بُدَّ لَنَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ اسْتِثْنَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَبَيْنَ بَيْعِ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَمَا فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا فِي مَنْعِ الِاسْتِثْنَاءِ وَيَجُوزُ بَيْعُ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ.

وَاَلَّذِي يَلُوحُ مِنْ الْفَرْقِ أَنَّ الْبَيْعَ بِإِطْلَاقِهِ يَعْتَمِدُ الرَّقَبَةَ، وَالْمَنْفَعَةُ تَابِعَةٌ لَهُمَا مَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ، وَالْإِجَارَةُ مَانِعَةٌ، فَإِذَا انْفَسَخَتْ زَالَ الْمَانِعُ فَعُمِلَ بِالْمُقْتَضَى كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ ابْنِ الرِّفْعَةِ وَلَا تَقُولُ: مَنْ بَاعَ عَيْنًا فَقَدْ بَاعَهَا وَمَنَافِعَهَا بَلْ إنَّمَا يَرِدُ الْبَيْعُ عَلَى الْعَيْنِ، وَالْعَيْنُ يَحْدُثُ فِيهَا مَنَافِعُ، فَإِنْ وَجَدَتْ مُسْتَحِقًّا بِعَقْدٍ تُعَارِضُ كَوْنَهَا لِصَاحِبِ الْعَيْنِ عُمِلَ بِهِ وَإِلَّا بِيعَتْ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015