حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ إلَّا إذَا خَالَفَ الْإِجْمَاعَ، وَإِنْ كَانَا لَمْ يُفْتِيَا بِذَلِكَ فَنَقَضَ مَالِكٌ الْحُكْمَ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ وَأَبُو حَنِيفَةَ الْحُكْمَ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ وَبِالْقُرْعَةِ بَيْنَ الْعَبِيدِ. وَالْمَقْصُودُ اتِّفَاقُ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مَتَى لَمْ يُخَالِفْ مَقْطُوعًا لَا يُنْقَضُ، وَالْحُكْمُ هُنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. فَإِنْ قُلْت: إنَّمَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْمَالِكِيِّ أَنْ يَحْكُمَ بِبُطْلَانِ الْوَقْفِ إذَا كَانَ الشَّافِعِيُّ قَدْ حَكَمَ بِصِحَّتِهِ، وَالشَّافِعِيُّ هُنَا لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّتِهِ.
قُلْت: كُلُّ شَيْءٍ حَكَمَ فِيهَا حُكْمًا صَحِيحًا لَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ فِيهِ، أَمَّا حَصْرُ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ فَلَا، وَلَيْسَ هَذَا اللَّفْظُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ، فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ امْتِنَاعِ النَّقْضِ أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمُ بِلَفْظِ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ ثُمَّ إنَّا نَقُولُ: الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ مُطْلَقًا يَقْتَضِي ثُبُوتَ ثُبُوتِهِ فِي نَفْسِهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي ثُبُوتَ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَاسْتِجْمَاعَ شُرُوطِ الصِّحَّةِ فَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِالصِّحَّةِ مُطْلَقًا إلَّا بَعْدَ وُجُودِهَا وَلِذَلِكَ يَحْتَرِزُ الْقُضَاةُ مِنْهَا، أَمَّا الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ عَلَيْهِ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِ وَإِقْرَارُهُ كَانَ فِي الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، وَالْمُؤَاخَذَةُ تَسْتَدْعِي الصِّحَّةَ فِي حَقِّهِ إذْ لَوْ كَانَ بَاطِلًا لَمَا أَخَذْنَا بِهِ فَالْحُكْمُ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَصِحَّةِ الْمُقَرِّ بِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، وَالْحُكْمُ قَدْ يَكُونُ بِالْمُطَابَقَةِ وَقَدْ يَكُونُ بِالِاسْتِلْزَامِ، فَالصَّادِرُ هُنَا مِنْ الْحَاكِمِ بِالْمُطَابَقَةِ الْحُكْمُ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ وَبِالِاسْتِلْزَامِ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَصِحَّةُ الْمُقَرِّ بِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، فَهِيَ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ، فَإِذَا حَكَمَ الْمَالِكِيُّ بِبُطْلَانِ الْوَقْفِ فَالصَّادِرُ مِنْهُ بِالْمُطَابَقَةِ الْحُكْمُ بِبُطْلَانِ الْوَقْفِ مُطْلَقًا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ وَبِالتَّضَمُّنِ الْحُكْمُ بِبُطْلَانِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، وَبِالِاسْتِلْزَامِ الْحُكْمُ بِبُطْلَانِ الْإِقْرَارِ بِهِ، وَهُوَ فِي الثَّانِي، وَالثَّالِثِ رَافِعٌ لِلْحُكْمَيْنِ الثَّانِي، وَالثَّالِثِ مِنْ الْحَاكِمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمَا مُتَوَارِدَانِ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ الثَّانِي بِالْمُطَابَقَةِ غَيْرَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ الْأَوَّلُ بِالْمُطَابَقَةِ
وَامْتِنَاعُ النَّقْضِ فِي الْمَحْكُومِ بِهِ لَمْ يَفْصِلُوا فِيهِ بَيْنَ الْمُطَابَقَةِ وَالِاسْتِلْزَامِ بَلْ صَرَّحُوا بِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ قَدْ يَكُونُ بِالْمُطَابَقَةِ وَقَدْ يَكُونُ بِالِاسْتِلْزَامِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَلَوْ جَادَلَ مُجَادِلٌ فِي الِاسْتِلْزَامِ لَمْ يُمْكِنْهُ الْمُجَادَلَةُ فِي التَّضْمِينِ. وَالتَّضْمِينُ فِي الْحُكْمِ الثَّانِي يُنَاقِضُ الْمُطَابِقِيَّ فِي الْحُكْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ حُكْمٌ فِي الْمَلْزُومِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ بِالْمُطَابَقَةِ، وَالثَّانِي حُكْمُهُ بِالتَّضَمُّنِ بِعَدَمِ اللُّزُومِ فِي حَقِّهِ فَكَانَ كَمَنْ حَكَمَ بِقَتْلِ امْرَأَةٍ بِالرِّدَّةِ فَحَكَمَ الثَّانِي بِامْتِنَاعِ قَتْلِ جَمِيعِ النِّسَاءِ إلَّا فِي تِلْكَ الْمَرْأَةِ مِنْهُنَّ، وَلَا نَشُكُّ أَنَّهُ لَا يُدْفَعُ حُكْمُ الْأَوَّلِ إذَا كَانَ الْأَوَّلُ وَقَعَ صَحِيحًا. وَمِمَّنْ تَضَمَّنَ كَلَامُهُ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ قَدْ يَكُونُ بِالِاسْتِلْزَامِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ