بِأَمْرَيْنِ الْإِقْرَارِ وَمُوجَبِهِ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ تَأْكِيدًا وَيَكُونُ الْمَحْكُومُ بِهِ الْمُوجَبَ فَقَطْ، وَعَلَى الثَّالِثِ يَكُونُ الْمَحْكُومُ بِهِ مُوجَبَ الْإِقْرَارِ، وَثُبُوتُ الْإِقْرَارِ، وَنِسْبَةُ الْحُكْمِ إلَى الثُّبُوتِ لَا تُسْتَبْعَدُ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ، وَإِنْهَاءَ الْحَالِ إلَى الْقَاضِي الْآخَرِ نَقْلٌ لِشَهَادَةِ الشُّهُودِ حَتَّى يُشْتَرَطَ فِيهَا الْمَسَافَةُ الَّتِي تُشْتَرَطُ فِي شَهَادَةِ الْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ، أَوْ حَكَمَ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ.
وَالثَّانِي أَظْهَرُ عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ فَأَخَذْنَا مِنْ كَلَامِ الْجَمِيعِ أَنَّ لَفْظَةَ الْحَاكِمِ قَدْ لَا يُرَادُ بِهَا الْإِلْزَامُ بِالْمُدَّعَى بِهِ وَتُسْتَعْمَلُ فِي تَثْبِيتِ الدَّعْوَى، وَمَحَلُّ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْأَكْثَرِينَ وَالْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ أَنَّ كِتَابَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ مِنْ قَاضٍ إلَى قَاضٍ هَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْ عَلَى الثَّانِي فَعُلِمَ بِذَلِكَ صِحَّةُ الِاحْتِمَالَاتِ الثَّلَاثَةِ وَلَكِنَّ الْأَظْهَرَ الْأَوَّلُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ حُكْمٌ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ بِلَا إشْكَالٍ، وَعَلَى أَظْهَرِ الِاحْتِمَالَاتِ حُكْمٌ مَعَ ذَلِكَ بِالْإِقْرَارِ أَيْضًا؛ وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي لَمْ يُحْكَمْ إلَّا بِالْمُوجَبِ، وَعَلَى الثَّالِثِ حُكِمَ بِالْمُوجَبِ وَثُبُوتِ الْإِقْرَارِ.
. (الْفَصْلُ الثَّانِي) فِي حُكْمِ ذَلِكَ وَهَلْ يَجُوزُ نَقْضُهُ، أَوْ لَا وَهَلْ هُوَ حُكْمٌ بِالصِّحَّةِ، أَوْ لَا؟
وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُقَرَّرَةَ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ لَا يُنْقَضُ إلَّا إذَا خَالَفَ النَّصَّ، أَوْ الْإِجْمَاعَ، أَوْ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ، أَوْ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا شَيْءٌ مِنْهَا.
فَإِنْ قُلْت مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ لَا يُنْقَضُ قُلْت: نَقَلَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ نَقَلَ ذَلِكَ أَبُو نَصْرِ بْنِ الصَّبَّاغِ وَقَالُوا: إنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَكَمَ فِي مَسَائِلَ خَالَفَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيهَا وَلَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ وَحَكَمَ عُمَرُ فِي الْمُشْتَرَكَةِ بِعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ ثُمَّ بِالْمُشَارَكَةِ، وَقَالَ: ذَلِكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا، وَهَذَا عَلَى مَا قَضَيْنَا وَقَضَى فِي الْحَدِّ قَضَايَا مُخْتَلِفَةً وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِأَنَّهُ لَيْسَ إلَّا اجْتِهَادٌ، وَالثَّانِي بِأَقْوَى مِنْ الْأَوَّلِ وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ حُكْمٌ، وَفِي ذَلِكَ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ فَإِنَّهُ إذَا نُقِضَ هَذَا الْحُكْمُ يُنْقَضُ ذَلِكَ النَّقْضُ وَهَلُمَّ جَرَّا.
أَمَّا مَا حُكِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ حَكَمَ فِي ابْنَيْ عَمٍّ؛ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ بِأَنَّ الْمَالَ لِلْأَخِ وَأَنَّهُمْ ارْتَفَعُوا إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَنَقَضَ ذَلِكَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ شُرَيْحًا هَمَّ بِالْحُكْمِ وَلَمْ يَحْكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَى أَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُولُو الأَرْحَامِ} [الأنفال: 75]- الْآيَةَ، أَمَّا مَا حُكِيَ عَنْ الْأَصَمِّ أَنَّهُ يُنْقَضُ قَضَاءُ الْقَاضِي فِيهِ فَلَا اعْتِدَادَ بِهِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَالْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ عَلَى خِلَافِهِ، وَقَدْ حَكَى الْإِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ مِنْ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ حَتَّى