بِأَنَّهُ لَا يُنْقَضُ فَفِي كَلَامِ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ أَنَّ مَأْخَذَهُ أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ وَهَذَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدَهُمَا: أَنَّ تَرْجِيحَ الْبَيِّنَةِ الْمُنْضَمَّةِ إلَى الْيَدِ لَيْسَ مَقْطُوعًا بِهِ كَالنَّصِّ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ اجْتِهَادِيٌّ فَلَا يُنْقَضُ بِهِ الْحُكْمُ، وَالثَّانِيَ: أَنَّ حُكْمَ الْخَارِجِ وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ فَلَا يُنْقَضُ وَلَا يُنْظَرُ إلَى كَوْنِ الْحُكْمِ مُسْتَنِدًا إلَيْهِ أَوْ لَا، وَاحْتِمَالًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ إنَّمَا مُسْتَنَدُهَا ظَنٌّ فَلَوْ نَقَضْنَا حُكْمَ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ بِالْأُخْرَى لَنَقَضْنَا الظَّنَّ بِالظَّنِّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا تُفِيدُ الظَّنَّ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الْبَيِّنَةِ مَقْطُوعٌ بِوُجُوبِهِ مِنْ الشَّرْعِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُعَارَضَةِ.
وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ مَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَبَعْدَهُ فَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ لَا نَحْكُمُ بِالنَّقْضِ بَلْ نَتْرُكُهَا فِي يَدِ الْمَحْكُومِ لَهُ، وَقَبْلَهُ لَا نُسَلِّمُ بَلْ نَتْرُكُهَا فِي يَدِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِحُكْمِهِ فَهَذَا يَكُونُ مَأْخَذُهُ التَّوَقُّفَ مَعَ الشَّكِّ فِي الْحَالَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ يَحْكُمُ بِبُطْلَانِ الْحُكْمِ فَلَا وَجْهَ لَهُ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى بَيْنَ مَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَبَعْدَهُ وَالْحُكْمُ مُتَأَكِّدٌ بِنَفْسِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى مُؤَكِّدٍ.
هَذَا مَا وَصَلَ إلَيْهِ فِكْرِي فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ، قَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ: إنَّهَا أَشْكَلَتْ عَلَيْهِ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَتَرَدَّدَ جَوَابُهُ فِيهَا وَاسْتَقَرَّ رَأْيُهُ عَلَى عَدَمِ النَّقْضِ سَوَاءٌ أَكَانَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ أَمْ بَعْدَهُ.
وَأَمَّا أَنَا فَإِنِّي أَخْتَارُ مَا قَالَهُ الْعِرَاقِيُّونَ وَتَعْلِيلُهُ مَا قَدَّمْته وَمَحَلُّهُ إذَا تَحَقَّقَ مِنْ الْحَاكِمِ أَنَّهُ إنَّمَا حَكَمَ لِعَدَمِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ فَإِنْ حَكَمَ؛ لِأَنَّهُ يَرَى تَقْدِيمَ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ أَوْ احْتَمَلَ ذَلِكَ لَمْ يَنْقُضْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَدَارَ نَقْضِ الْحُكْمِ عَلَى تَبَيُّنِ الْخَطَأِ وَالْخَطَأُ إمَّا فِي اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ حَيْثُ يَتَبَيَّنُ النَّصُّ أَوْ الْإِجْمَاعُ أَوْ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ بِخِلَافِهِ وَيَكُونُ الْحُكْمُ مُرَتَّبًا عَلَى سَبَبٍ صَحِيحٍ، وَإِمَّا فِي السَّبَبِ حَيْثُ يَكُونُ الْحُكْمُ مُرَتَّبًا عَلَى سَبَبٍ بَاطِلٍ كَشَهَادَةِ الزُّورِ، وَفِي الْقِسْمَيْنِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَنْفُذْ فِي الْبَاطِنِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي بَعْضِ صُوَرِ الْقِسْمِ الثَّانِي إذَا كَانَ مُرَتَّبًا عَلَى شَهَادَةِ زُورٍ فِي الْعُقُودِ أَوْ الْفُسُوخِ وَأَمَّا الْحُكْمُ الصَّادِرُ عَلَى سَبَبٍ صَحِيحٍ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ إجْمَاعًا أَوْ نَصًّا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا فَنَافِذٌ قَطْعًا وَظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَالصَّادِرُ عَلَى سَبَبٍ صَحِيحٍ وَلَكِنَّهُ فِي مَحَلٍّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ أَوْ مُجْتَهَدٍ فِيهِ يَتَقَدَّمُ فِيهِ خِلَافٌ وَلَا دَلِيلَ عَلَى رَدِّهِ فَنَافِذٌ