وبالجملة ما حوى أحد في عصرنا فضله، وأنا لم أر مثلاً له وأظن أنه هو أيضاً ما رأى مثله، وإنكار بعض الأجلة عليه، وتوجيههم سهام الطعن وحاشاه إليه، كان بعضه محض نفسانية، وبعضه الآخر كان من غير روية، ومن المتنكرين من كان كالبائل في بئر زمزم، أراد أن يشهر اسمه بالإنكار عليهم مثله، وتحملوا من معاصريهم حملاً ثقيلاً، وصبروا على ما نالوا من معاديهم صبراً جميلاً، تلك) سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا (على أن ذلك إنما نقص قدر من آذاهم ولم ينقص قدر ذرة من شامخ علاهم.
من كان فوق محل الشمس رتبته ... فليس يرفعه شيء ولا يضعه
وقد كان له قدس سره على شفقة شفيقه، وقد أمرني بالاشتغال بالعلم وضمن لي أن لا أحرم من بركة الطريقة، وها أنا إلى هذا الزمن منتظر تحقق ما ضمن، وكأني في بركة تلك البركة، أسبح إن شاء الله ولا سبح السمكة، وفد طارت روحه إلى حضيرة القدس في دمشق الشام، فحبست في أقفاص الأسى لطيرانه قلوب المسلمين والإسلام وقيل في تاريخ ذلك، غير ما قيل هنالك، ومنه قول السياه بوش من قصيدة مرثية، شرحتها شرحاً نفيساً سميته الروضة الأحمدية:
ولما هويت الحق قلت مؤرخاً ... هوى للقاء الحق في القدس خالد
وحين بكت أهل الطريقة أرخوا ... بكى فقدك الدرس الإلهي خالد
وحين نحوت القدس قلت مؤرخاً ... دنى بازاء القدس في القرب خالد
وحين اتحدنا في الطريقة نسبة ... وقد طهرت أعراقنا والمخالد
نبغت بصدق عن لساني أرخوا ... مقامك صدق عند مولاي خالد
وأجازني بما تجوز له روايته، وصحت لديه درايته، جامع العلوم البعيدة والقريبة، والفنون المعروفة والغريبة، سيدي وأستاذي ملحق الأصاغر بالأكابر) الشيخ يحيى المزوري العمادي (وهو إمام علامة أشهر من أن ينبه عليه، وأجل من يعرف بالإشارة إليه، لا يجاذب رداء فضله، ولا تدور العين في أصحابه على مثله، حامل أعباء التدريس والمعول عليه في مذهب الإمام ابن إدريس، بل لعمري أنه كان واسطة قلادة علماء عصره، يعجز البليغ عن وصف فضله ولو بلغ النثرة بنثره، والشعري بشعره، كان عليه الرحمة للعلماء جمالاً، لكن إذا رأيته حسبته لعدم اعتنائه بنفسه حمالاً، ولسان الإنصاف يقول على لسانه لو تعي، نحو ما قاله في نفسه الإمام الشافعي:
على ثياب لو يباع جميعها ... بفلس لكان الفلس منهن أكثرا
وفيهن نفس لو تباع بمثلها ... نفوس الورى كانت أعز وأكبرا
توفي في بضع وخمسين بعد الألف والمائتين، من هجرة سيد المرسلين صلوات الله تعالى وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ودفن في مقبرة باب الأزج، لا زال لثرى قبره من غالية الرحمة أرج) وأجازني (أيضاً علماء أعلام، كل منهم في حلبة الفضل إمام، كالفاضل السري، محدث دمشق) الشيخ عبد الرحمن الكزبري (والسارح بقلبه في رياض الملكوت) الشيخ عبد اللطيف (ابن الشيخ علي مفتي بيروت، وقد كتبا لي بذلك من دمشق الشام، وصرحا فيما كتبا بعده إثبات لعلماء فخام ونظم في أثناء ما كتب الثاني، أبياتاً حسنة المباني والمعاني، فقال:
أحسن ببغداد التي ... تحوي المكارم والكرام
فاقت على كل البلا ... د بحسنها عند الأنام
فكم انتشى من عالم وكم انتشى فيها إمام
من حسنها أن قد غدت ... دار المحاسن والسلام
وكأناس آخرين من علماء الآفاق ... والفضلاء القاطنين في أرجاء العراق
قد انتظموا في سلك فضل قلادة ... وكلهم وسطي فناهيك من عقد