فِيهِ قِيَامُك، بِمَسْجِدٍ، وَخَيْرَ خَصْلَةٍ تَحَلَّيْت بِهَا ذِكْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى طَرِيقِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُشَوَّشِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فَضْلِ الْمَسَاجِدِ وَآدَابِهَا بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَأَمَّا الذِّكْرُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] .
وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى «مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي، وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْته فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» .
«وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ كَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ إلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ» ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الذِّكْرِ إلَّا هَذِهِ الْخَصْلَةُ الْوَاحِدَةُ لَكَانَ حَقِيقًا بِالْعَبْدِ أَنْ لَا يَفْتُرَ لِسَانُهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَكَيْفَ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الذِّكْرَ سَبَبٌ لِذِكْرِ مَوْلَاهُ لَهُ، وَهَذِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْفَوَائِدِ بَلْ هِيَ أَعْظَمُهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ لِلذِّكْرِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ فَائِدَةٍ، مِنْهَا طَرْدُ الشَّيْطَانِ وَقَمْعُهُ، وَأَنَّهُ يُرْضِي الرَّحْمَنَ وَيُزِيلُ الْهَمَّ وَالْغَمَّ عَنْ الْقَلْبِ، وَيَجْلِبُ لَهُ الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ، وَيُقَوِّي الْبَدَنَ وَالْقَلْبَ، وَيَجْلِبُ الرِّزْقَ، وَيُكْسِي الذَّاكِرَ الْمَهَابَةَ وَالْحَلَاوَةَ وَالنُّضْرَةَ، وَيُورِثُهُ الْمَحَبَّةَ الَّتِي هِيَ رُوحُ الْإِسْلَامِ وَقُطْبُ رَحَى الدِّينِ وَمَدَارُ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، وَجَعَلَ سَبَبَ الْمَحَبَّةِ دَوَامَ الذِّكْرِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنَالَ مَحَبَّةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلْيَلْهَجْ بِذِكْرِهِ، فَإِنَّ الدَّرْسَ وَالْمُذَاكَرَةَ كَمَا أَنَّهُ بَابُ الْعِلْمِ، فَالذِّكْرُ بَابُ الْمَحَبَّةِ وَطَرِيقُهَا الْأَعْظَمُ، وَصِرَاطُهَا الْأَقْوَمُ، وَيُورِثُ الذِّكْرُ الذَّاكِرَ الْمُرَاقَبَةَ حَتَّى يُدْخِلَهُ فِي بَابِ الْإِحْسَانِ فَيَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَيُورِثُهُ الْإِنَابَةَ وَهِيَ الرُّجُوعُ إلَى اللَّهِ وَالْقُرْبُ مِنْهُ، وَيَفْتَحُ لَهُ بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الْمَعْرِفَةِ، وَيُورِثُهُ الْهَيْبَةَ لِرَبِّهِ وَإِجْلَالَهُ لِشِدَّةِ اسْتِيلَائِهِ عَلَى قَلْبِهِ وَحُضُورِهِ مَعَ اللَّهِ بِخِلَافِ الْغَافِلِ، وَحَيَاةَ الْقَلْبِ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: سَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَقُولُ: الذِّكْرُ لِلْقَلْبِ مِثْلُ الْمَاءِ لِلسَّمَكِ فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ السَّمَكِ إذَا فَارَقَ الْمَاءَ.