الْفَاجِرَ فَإِنَّهُ يُزَيِّنُ لَك فِعْلَهُ وَيُحِبُّ لَوْ أَنَّك مِثْلُهُ، وَمَدْخَلُهُ عَلَيْك وَمَخْرَجُك مِنْ عِنْدِهِ شَيْنٌ وَعَارٌ، وَلَا الْأَحْمَقَ فَإِنَّهُ يُجْهِدُ نَفْسَهُ لَك وَلَا يَنْفَعُك، وَرُبَّمَا أَرَادَ أَنْ يَنْفَعَك فَضَرَّك، فَسُكُوتُهُ خَيْرٌ مِنْ نُطْقِهِ، وَبُعْدُهُ خَيْرٌ مِنْ قُرْبِهِ، وَمَوْتُهُ خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِهِ، وَلَا الْكَذَّابَ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُك مَعَهُ عِشْرَةٌ، يَنْقُلُ حَدِيثَك وَيَنْقُلُ الْحَدِيثَ إلَيْك، وَإِنْ تَحَدَّثَ بِالصِّدْقِ لَا يُصَدَّقُ. وَقِيلَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ مَنْ اصْطَنَعَ مَعْرُوفًا إلَى أَحْمَقَ فَهِيَ خَطِيئَةٌ مَكْتُوبَةٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَارِمْ الْأَحْمَقَ فَلَيْسَ لَهُ خَيْرٌ مِنْ الْهِجْرَانِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: هِجْرَانُ الْأَحْمَقِ قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ فِي قَافِيَتِهِ:
وَلَأَنْ يُعَادِيَ عَاقِلًا خَيْرٌ لَهُ ... مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَدِيقٌ أَحْمَقُ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
اتَّقِ الْأَحْمَقَ لَا تَصْحَبْهُ ... إنَّمَا الْأَحْمَقُ كَالثَّوْبِ الْخَلَقِ
فَهُوَ إنْ رَقَعْته مِنْ جَانِبٍ ... عَادَ مِنْ هَوْنٍ سَرِيعًا فَانْخَرَقَ
فَلَا يَسُوغُ لَك أَيُّهَا الْعَاقِلُ الرَّشِيدُ، صُحْبَةُ مِثْلِ هَذَا الْأَحْمَقِ الْبَلِيدِ، فَإِنَّهُ يَسُوءُك بِحُمْقِهِ وَتَأَنُّبِهِ، وَلَا تَعْرِفُ رِضَاهُ مِنْ غَضَبِهِ.
وَقَدْ أَلَّفَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ كِتَابًا حَافِلًا فِي الْحَمْقَى وَالْمُغَفَّلِينَ، وَكِتَابًا فِي الْأَذْكِيَاءِ، وَهُمَا مِنْ أَلْطَفِ الْكُتُبِ وَأَغْزَرِهِمَا فَوَائِدُ.
(فَوَائِدُ) :
(الْأُولَى) : فِي الْأُخُوَّةِ وَالصَّدَاقَةِ، وَهِيَ مَطْلُوبَةٌ شَرْعًا وَطَبْعًا. قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62] بِمَعْنَى قَوَّاك بِهِمْ {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 63] التَّأْلِيفُ بِالْجَمْعِ عَلَى مَا يُشَاكِلُ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجِ وَهُمْ الْأَنْصَارُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْآيَاتِ، كَانُوا ذَوِي أَنَفَةٍ شَدِيدَةٍ، فَلَوْ لَطَمَ رَجُلٌ رَجُلًا لَقَاتَلَتْ عَنْهُ قَبِيلَتُهُ حَتَّى تُدْرِكَ ثَأْرَهُ، فَآلَ بِهِمْ الْإِسْلَامُ إلَى أَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلُ ابْنَهُ وَأَبَاهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْجَامِعُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الْإِسْلَامُ، فَقَدْ اكْتَسَبُوا بِهِ أُخُوَّةً أَصْلِيَّةً وَجَبَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ حُقُوقٌ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.