وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَك مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» .
قَالَ: فَمَتَى جَاءَ الشَّيْطَانُ فَحَسَّنَ لِلْعَالِمِ الِانْقِطَاعَ عَنْ الْخَلْقِ جُمْلَةً فَذَاكَ خَدِيعَةٌ مِنْهُ، بَلْ يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَعْتَزِلَ شَرَّ مَا يُؤْذِي وَيَبْرُزُ لِمَنْ يَسْتَفِيدُ، فَظُهُورُهُ أَفْضَلُ مِنْ اخْتِفَائِهِ. وَالْعَابِدُ إنْ كَانَ عَابِدًا لَا يُنَافَسُ فِي هَذَا، فَإِنَّ مِنْ الْقَوْمِ مِنْ شَغَلَتْهُ الْعِبَادَةُ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ رَأَى رَجُلًا مُتَعَبِّدًا فَأَتَاهُ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا مَنَعَك مِنْ مُجَالَسَةِ النَّاسِ؟ فَقَالَ مَا أَشْغَلَنِي عَنْ النَّاسِ. قَالَ فَمَا مَنَعَك أَنْ تَأْتِيَ الْحَسَنَ؟ قَالَ مَا أَشْغَلَنِي عَنْ الْحَسَنِ. قَالَ فَمَا الَّذِي أَشْغَلَك؟ قَالَ إنِّي أُمْسِي وَأُصْبِحُ بَيْنَ ذَنْبٍ وَنِعْمَةٍ فَرَأَيْت أَنْ أُشْغِلَ نَفْسِي بِهِ بِالِاسْتِغْفَارِ لِلذَّنْبِ وَالشُّكْرِ لِلَّهِ عَلَى النِّعْمَةِ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ عِنْدِي أَفْقَهُ مِنْ الْحَسَنِ.
وَمِنْ الْقَوْمِ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ مَحَبَّةُ الْحَيِّ الْقَيُّومِ فَلَا يَحْصُلُ لَهُ أُنْسٌ وَلَا طِيبُ عَيْشٍ إلَّا بِانْفِرَادِهِ بِرَبِّهِ، فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ عُزْلَتُهُمْ أَصْلَحُ لَهُمْ.
نَعَمْ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَشْغَلَهُمْ الْعُزْلَةُ عَنْ الْجَمَاعَاتِ وَمُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ، فَإِنْ مَنَعَتْهُمْ كَانَتْ غَيْرَ مَحْمُودَةٍ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ الْعُزْلَةُ حَمِيَّةٌ وَسُلَّمٌ لِلسَّلَامَةِ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ لِيُعْبَدَ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ. وَلِلَّهِ دَرُّ الْحُمَيْدِيِّ حَيْثُ يَقُولُ:
لِقَاءُ النَّاسِ لَيْسَ يُفِيدُ شَيْئًا ... سِوَى الْهَذَيَانِ مِنْ قِيلَ وَقَالَ
فَأَقْلِلْ مِنْ لِقَاءِ النَّاسِ إلَّا ... لِأَخْذِ الْعِلْمِ أَوْ إصْلَاحِ حَالِ
وَقَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيّ:
إنِّي عَزَمْت وَمَا عَزْمِي بِمُنْجَزِمٍ ... مَا لَمْ تُسَاعِدْهُ أَلْطَافٌ مِنْ الْبَارِي
أَنْ لَا أُصَاحِبَ إلَّا مَنْ خَبَرْتُهُمْ ... دَهْرًا مَدِيدًا وَأَزْمَانًا بِأَسْفَارِ
وَلَا أُجَالِسَ إلَّا عَالِمًا فَطِنًا ... أَوْ صَالِحًا أَوْ صَدِيقًا لَا بِإِكْثَارِ
وَلَا أُسَائِلُ شَخْصًا حَاجَةً أَبَدًا ... إلَّا اسْتِعَارَةَ أَجْزَاءٍ وَأَسْفَارِ
وَلَسْت أُحْدِثُ فِعْلًا غَيْرَ مُفْتَرَضٍ ... أَوْ مُسْتَحَبٍّ وَلَمْ يَدْخُلْ بِإِنْكَارِ
مَا لَمْ أَقُمْ مُسْتَخِيرَ اللَّهِ مُتَّكِلًا ... وَتَابِعًا مَا أَتَى فِيهَا بِآثَارِ
فَالْعَاقِلُ إنَّمَا يُخَالِطُ الْأَفَاضِلَ وَالْأَمَاثِلَ مِنْ أَهْلِ التَّعَبُّدِ وَالْعِلْمِ وَالتَّسَدُّدِ وَالْحِلْمِ. فَإِذَا كُنْت وَلَا بُدَّ مُخَالِطًا فَعَلَيْك بِمُخَالَطَةِ الْعَالِمِ النَّاصِحِ الَّذِي: