قُلْت: الْعَقْلُ عَقْلَانِ، غَرِيزِيٌّ وَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يَزِيدُ وَلَا يَخْتَلِفُ، وَالثَّانِي تَجْرِيبِيٌّ يَخْتَلِفُ وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْمُمَارَسَةِ وَالتَّجْرِبَةِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الطُّوفِيُّ مِنَّا وَذَكَرَهُ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ وَمُخْتَصَرِهِ، وَقَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُ النَّاظِمِ مُؤَيَّدُ. النُّسَخُ الَّتِي رَأَيْتهَا بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ الدَّائِمِ الْمُسْتَمِرِّ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ مِنْ أَيَّدْتُهُ تَأْيِيدًا قَوَّيْته تَقْوِيَةً.
قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَوَّحَ اللَّهِ رُوحَهُ فِي كِتَابِهِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ سَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَقُولُ: إنَّ فِي الدُّنْيَا جَنَّةً مَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا لَمْ يَدْخُلْ جَنَّةَ الْآخِرَةَ، يَعْنِي الْكُتُبَ. قَالَ وَقَالَ لِي مَرَّةً: مَا يَصْنَعُ أَعْدَائِي بِي أَنَا جَنَّتِي وَبُسْتَانِي فِي صَدْرِي أَيْنَ رُحْت فَهِيَ مَعِي لَا تُفَارِقُنِي، أَنَا حَبْسِي خَلْوَةٌ، وَقَتْلِي شَهَادَةٌ، وَإِخْرَاجِي مِنْ بَلَدِي سِيَاحَةٌ.
وَقَالَ لِي مَرَّةً: الْمَحْبُوسُ مَنْ حُبِسَ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ، وَالْمَأْسُورُ مَنْ أَسَرَهُ هَوَاهُ. قَالَ وَعَلِمَ اللَّهُ مَا رَأَيْت أَحَدًا أَطْيَبُ عَيْشًا مِنْهُ قَطُّ مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ ضِيقِ الْعَيْشِ وَخَلَاقِ الرَّفَاهِيَةِ وَالنَّعِيمِ بَلْ ضِدِّهَا مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ الْحَبْسِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْإِرْجَافِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَطْيَبُ النَّاسِ عَيْشًا وَأَشْرَحُهُمْ صَدْرًا، وَأَقْوَاهُمْ قَلْبًا وَأَسَرُّهُمْ نَفْسًا تَلُوحُ نَضِرَةُ النَّعِيمِ عَلَى وَجْهِهِ قَالَ: وَكُنَّا إذَا اشْتَدَّ بِنَا الْخَوْفُ وَسَاءَتْ مِنَّا الظُّنُونُ وَضَاقَتْ بِنَا الْأَرْضُ أَتَيْنَاهُ فَمَا هُوَ إلَّا أَنْ نَرَاهُ وَنَسْمَعَ كَلَامَهُ فَيَذْهَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَيَنْقَلِبَ انْشِرَاحًا وَقُوَّةً وَيَقِينًا وَطُمَأْنِينَةً، فَسُبْحَانَ مَنْ أَشْهَدَ عِبَادَهُ جَنَّتَهُ قَبْلَ لِقَائِهِ وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَابَهَا فِي دَارِ الْعَمَلِ فَأَتَاهُ مِنْ رُوحِهَا وَنَسِيمِهَا وَطِيبِهَا مَا اسْتَفْرَغَ قُوَاهُمْ لِطَلَبِهَا وَالْمُسَابَقَةِ إلَيْهَا.
وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ مَدْحِ الْخَلْوَةِ وَكَفِّ رَجُلٍ لِرَجُلٍ عَنْ الِاخْتِلَاطِ بِالنَّاسِ نَثْرًا وَنَظْمًا. قَالَ بَعْضُهُمْ:
أَنِسْت بِوِحْدَتِي وَلَزِمْت بَيْتِي ... فَدَامَ الْأُنْسُ لِي وَنَمَا السُّرُورُ
وَأَدَّبَنِي الزَّمَانُ فَلَا أُبَالِي ... هَجَرْت فَلَا أُزَارُ وَلَا أَزُورُ
وَلَسْت بِسَائِلٍ مَا دُمْت حَيًّا ... أَسَارَ الْجَيْشُ أَمْ رَكِبَ الْأَمِيرُ
وَقَالَ غَيْرُهُ: