بِحَسَبِ مَا اتَّبَعَ مِنْ هَوَاهُ، بَلْ يَصِيرُ لَهُ ذَلِكَ فِي نِهَايَتِهِ عَذَابًا يُعَذَّبُ بِهِ فِي قَلْبِهِ كَمَا قِيلَ:
مَآرِبُ كَانَتْ فِي الشَّبَابِ لِأَهْلِهَا ... عِذَابًا فَصَارَتْ فِي الْمَشِيبِ عَذَابَا
فَلَوْ تَأَمَّلْت حَالَ كُلِّ ذِي حَالٍ شِينَةٍ زَرِيَّةٍ لَرَأَيْت بِدَايَتَهُ الذَّهَابُ مَعَ هَوَاهُ وَإِيثَارُهُ عَلَى عَقْلِهِ. وَمَنْ كَانَتْ بِدَايَتُهُ مُخَالَفَةَ هَوَاهُ وَطَاعَةُ دَاعِي رُشْدِهِ كَانَتْ نِهَايَتُهُ الْعِزَّ وَالشَّرَفَ وَالْغِنَى وَالْجَاهَ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ النَّاسِ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: مَنْ مَلَكَ شَهْوَتَهُ فِي حَالِ شَبِيبَتِهِ أَعَزَّهُ اللَّهُ فِي حَالِ كُهُولِيَّتِهِ. وَقِيلَ لِلْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ: بِمَ نِلْت مَا نِلْت؟ قَالَ: بِطَاعَةِ الْحَزْمِ وَعِصْيَانِ الْهَوَى. فَهَذَا فِي بِدَايَةِ الدُّنْيَا وَنِهَايَتِهَا، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْجَنَّةَ نِهَايَةَ مَنْ نَهَى نَفْسَهُ عَنْ هَوَاهُ، وَالنَّارَ نِهَايَةَ مَنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: رَأَيْت سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ فِي الْمَنَامِ فَقُلْت مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك؟ قَالَ لَمْ يَكُنْ إلَّا أَنْ وُضِعْتُ فِي لَحْدِي حَتَّى وَقَفْت بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى فَحَاسَبَنِي حِسَابًا يَسِيرًا ثُمَّ أَمَرَ بِي إلَى الْجَنَّةِ، فَبَيْنَمَا أَنَا أَدُورُ بَيْنَ أَشْجَارِهَا وَأَنْهَارِهَا لَا أَسْمَعُ حِسًّا وَلَا حَرَكَةً إذْ سَمِعْت قَائِلًا يَقُولُ سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، فَقَالَ: تَحْفَظُ أَنَّك آثَرْت اللَّهَ عَلَى هَوَاك يَوْمًا؟ قُلْت: إي وَاَللَّهِ، فَأَخَذَنِي النِّثَارُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ مُخَالَفَةُ الْهَوَى تُوجِبُ شَرَفَ الدِّينِ وَشَرَفَ الْآخِرَةِ وَعِزَّ الظَّاهِرِ وَعِزَّ الْبَاطِنِ، وَمُتَابَعَتُهُ تَضَعُ الْعَبْدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَتُذِلُّهُ فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ.
وَذَكَرَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا بِسَنَدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمَّادٍ عَنْ الزُّبَيْرِ:
إذَا الْمَرْءُ أَعْطَى نَفْسَهُ كُلَّمَا اشْتَهَتْ ... وَلَمْ يَنْهَهَا تَاقَتْ إلَى كُلِّ بَاطِلِ
وَسَاقَتْ إلَيْهِ الْإِثْمَ وَالْعَارَ لِلَّذِي ... دَعَتْهُ إلَيْهِ مِنْ حَلَاوَةِ عَاجِلِ
وَلِأَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ: