قَالَ فِي شَرْحِ أَوْرَادِ أَبِي دَاوُد: وَأَمَّا كَثْرَةُ النَّوْمِ فَلَهُ آفَاتٌ: مِنْهَا أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْفُسُولَةِ وَالضَّعْفِ وَعَدَمِ الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ، مُسَبِّبٌ لِلْكَسَلِ وَعَادَةِ الْعَجْزِ وَتَضْيِيعِ الْعُمْرِ فِي غَيْرِ نَفْعٍ وَقَسَاوَةِ الْقَلْبِ وَغَفْلَتِهِ وَمَوْتِهِ، وَالشَّاهِدُ عَلَى هَذَا مَا يُعْلَمُ ضَرُورَةً وَيُوجَدُ مُشَاهَدَةً وَيُنْقَلُ مُتَوَاتِرًا مِنْ كَلَامِ الْأُمَمِ وَالْحُكَمَاءِ السَّالِفِينَ وَأَشْعَارِ الْعَرَبِ وَصَحِيحِ الْأَحَادِيثِ وَآثَارِ مَنْ سَلَفَ وَخَلَفَ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِشْهَادِ عَلَيْهِ اخْتِصَارًا وَاقْتِصَارًا عَلَى شُهْرَتِهِ. انْتَهَى.
مَطْلَبٌ: فِي أَنَّ مُدَافَعَةَ النَّوْمِ تُورِثُ الْآفَاتِ، وَأَنَّ الْيَقَظَةَ أَفْضَلُ مِنْ النَّوْمِ لِمَنْ يَقَظَتُهُ طَاعَةٌ
(الثَّالِثُ) : لَا يَنْبَغِي مُدَافَعَةُ النَّوْمِ كَثِيرًا، وَإِدْمَانُ السَّهَرِ، فَإِنَّ مُدَافَعَةَ النَّوْمِ وَهَجْرَهُ مُورِثٌ لِآفَاتٍ أُخَرَ مِنْ سُوءِ الْمِزَاجِ وَيُبْسِهِ. وَانْحِرَافِ النَّفْسِ، وَجَفَافِ الرُّطُوبَاتِ الْمُعِينَةِ عَلَى الْفَهْمِ وَالْعَمَلِ، وَتُورِثُ أَمْرَاضًا مُتْلِفَةً.
وَمَا قَامَ الْوُجُودُ إلَّا بِالْعَدْلِ. فَمَنْ اعْتَصَمَ بِهِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْ مَجَامِعِ الْخَيْرِ. وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: النُّعَاسُ يُذْهِبُ الْعَقْلَ، وَالنَّوْمُ يَزِيدُ فِيهِ. فَالنَّوْمُ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَلِهَذَا امْتَنَّ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِهِ.
(الرَّابِعُ) الْيَقَظَةُ أَفْضَلُ مِنْ النَّوْمِ لَا مُطْلَقًا، بَلْ لِمَنْ تَكُونُ يَقَظَتُهُ طَاعَةً لَا لِمَنْ تَكُونُ يَقَظَتُهُ مَعْصِيَةً. فَإِنْ كَانَ لَوْ لَمْ يَنَمْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِخَيْرٍ وَرُبَّمَا خَالَطَ أَهْلَ الْغَفْلَةِ وَتَحَدَّثَ مَعَهُمْ فَضْلًا عَنْ إتْيَانِهِ الْعَظَائِمَ مِنْ الْخَطَايَا وَالْجَرَائِمِ، فَالنَّوْمُ خَيْرٌ لَهُ، بَلْ رُبَّمَا يَكُونُ وَاجِبًا عَلَيْهِ إنْ كَانَ لَا يَتَخَلَّصُ مِنْ مُلَابَسَةِ الْحَرَامِ إلَّا بِهِ، إذْ فِي النَّوْمِ الصَّمْتُ وَالسَّلَامَةُ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّمْتُ وَالنَّوْمُ فِيهِ أَفْضَلُ أَعْمَالِهِمْ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ -: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ إذَا تَفَرَّغُوا أَنْ يَنَامُوا طَلَبًا لِلسَّلَامَةِ. فَإِذَنْ النَّوْمُ عَلَى قَصْدِ طَلَبِ السَّلَامَةِ وَنِيَّةِ قِيَامِ اللَّيْلِ قُرْبَةٌ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ لَوْ لَمْ يَنَمْ لَانْبَعَثَ فِي الْعِبَادَةِ مِنْ الْأَذْكَارِ وَالْوَظَائِفِ فَهَذَا يَقَظَتُهُ خَيْرٌ مِنْ نَوْمِهِ.
فَإِذَا نَامَ لِأَجْلِ أَنْ يَذْهَبَ عَنْهُ التَّعَبُ وَالْكَسَلُ وَالسَّآمَةُ وَيَنْهَضَ إلَى الْوَظَائِفِ وَالْأَذْكَارِ عَلَى غَايَةٍ مِنْ النَّشَاطِ وَصَفَاءِ الذِّهْنِ وَالْخَاطِرِ، فَنَوْمُهُ أَيْضًا عِبَادَةٌ.