قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: «لَا آكُلُ مُتَّكِئًا» أَيْ لَا آكُلُ أَكْلَ رَاغِبٍ فِي الدُّنْيَا مُتَمَكِّنٍ، بَلْ آكُلُ مُسْتَوْفِزًا بِحَسَبِ الْحَاجَةِ.
قَالَ فِي الْقَامُوسِ: ضَرَبَهُ فَأَتْكَأَهُ كَأَخْرَجَهُ أَلْقَاهُ عَلَى هَيْئَةِ الْمُتَّكِئِ أَوْ عَلَى جَانِبِهِ الْأَيْسَرِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " لَا آكُلُ مُتَّكِئًا " الْمُتَّكِئُ هُنَا الْجَالِسُ الْمُعْتَمِدُ عَلَى شَيْءٍ تَحْتَهُ قَالَ وَأَرَادَ أَنَّهُ لَا يَقْعُدُ عَلَى الْوِطَاءِ، وَالْوَسَائِدِ كَفِعْلِ مَنْ يُرِيدُ الْإِكْثَارَ مِنْ الطَّعَامِ، بَلْ يَقْعُدُ مُسْتَوْفِزًا لَا مُسْتَوْطِئًا وَيَأْكُلُ بُلْغَةً. انْتَهَى.
وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الشُّرْبِ، وَالْأَكْلِ قَائِمًا فِي مَحَلِّهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ كَرَاهَةُ الْأَكْلِ مُتَّكِئًا، وَعِبَارَةُ الْفُرُوعِ وَغَيْرِهِ صَرِيحَةٌ فِي الْكَرَاهَةِ، وَهِيَ بَعْدَ قَوْلِهِ، وَيُكْرَهُ عَيْبُ طَعَامٍ وَأَكْلُهُ مِنْ وَسَطِهِ وَأَعْلَاهُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَمُتَّكِئًا، وَفِي الْغُنْيَةِ وَعَلَى طَرِيقِ وَعِبَارَةِ الْآدَابِ: وَيُكْرَهُ أَكْلُهُ مُتَّكِئًا وَمُضْطَجِعًا. زَادَ فِي الْإِقْنَاعِ كَالْآدَابِ، أَوْ مُنْبَطِحًا انْتَهَى.
وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ هُبَيْرَةَ: أَكْلُ الرَّجُلِ مُتَّكِئًا يَدُلُّ عَلَى اسْتِخْفَافِهِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ فِيمَا قَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رِزْقِهِ فِيمَا يَرَاهُ اللَّهُ عَلَى تَنَاوُلِهِ وَيُخَالِفُ عَوَائِدَ النَّاسِ عِنْدَ أَكْلِهِمْ الطَّعَامَ مِنْ الْجُلُوسِ إلَى أَنْ يَتَّكِئَ عَنْهُ، فَإِنَّ هَذَا يَجْمَعُ بَيْنَ سُوءِ الْأَدَبِ، وَالْجَهْلِ وَاحْتِقَارِ النِّعْمَةِ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَّكِئًا لَا يَصِلُ الْغِذَاءُ إلَى قَعْرِ الْمَعِدَةِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْهَضْمِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَفْعَلُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَبَّهَ عَلَى كَرَاهَتِهِ.
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى مَائِدَةٍ شُرِبَ عَلَيْهَا الْخَمْرُ وَأَنْ يَأْكُلَ، وَهُوَ مُنْبَطِحٌ عَلَى بَطْنِهِ» .
وَذَكَرَ بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْأَكْلِ مُتَّكِئًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكَلَ يَوْمَ خَيْبَرَ مُتَّكِئًا كَذَا قَالُوا، وَالْحَدِيثُ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ، وَهُوَ ثِقَةٌ لَكِنَّهُ مُدَلِّسٌ، وَفِي رِجَالِهِ عُمَرُ الشَّامِيُّ مَجْهُولٌ، وَلَفْظُهُ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ جُعِلَتْ لَهُ مَائِدَةٌ فَأَكَلَ مُتَّكِئًا وَأَصَابَتْهُ الشَّمْسُ فَلَبِسَ الظُّلَّةَ» قُلْت: وَعَلَى فَرْضِ صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ مَنْسُوخٌ يَدُلُّ لَهُ مَا رُوِيَ عَنْ وَاثِلَةَ نَفْسِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -