وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَا بِأَيْدِينَا مِنْ أَمْلَاكِهِمْ، وَأَنَّا سَلَبْنَاهُمْ مِلْكَهُمْ وَدَوْلَتَهُمْ فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ كَيْفَ يُؤْمَنُ عَلَى بَدَنٍ، أَوْ غَيْرِهِ؟ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ النَّاظِمُ مُنَبِّهًا بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَقَلِّ مِنْ بَابِ أَوْلَى (لِ) أَجْلِ (إحْرَازٍ) أَيْ حِفْظِ (مَالٍ) مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ (أَوْ) أَيْ وَمَكْرُوهٌ اسْتِئْمَانُنَا لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ (لِ) أَجْلِ (قِسْمَتِهِ) أَيْ الْمَالِ (اشْهَدْ) بِذَلِكَ وَاعْتَقِدْهُ وَإِيَّاكَ، وَالْعُدُولَ عَنْهُ.
قَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: يُكْرَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ مُسْلِمٌ بِذِمِّيٍّ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ كِتَابَةٍ وَعِمَالَةٍ وَجِبَايَةِ خَرَاجٍ وَقِسْمَةِ فَيْءٍ وَغَنِيمَةٍ وَحِفْظِ ذَلِكَ إلَّا لِضَرُورَةٍ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَلَا يَكُونُ بَوَّابًا وَلَا جَلَّادًا وَنَحْوَهُمَا. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قُلْت لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إنَّ لِي كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا قَالَ: مَالَكَ قَاتَلَك اللَّهُ، أَمَا سَمِعْت اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] أَلَا اتَّخَذْت حَنِيفًا؟ قَالَ: قُلْت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِي كِتَابَتُهُ وَلَهُ دِينُهُ قَالَ: لَا أُكْرِمُهُمْ إذْ أَهَانَهُمْ اللَّهُ وَلَا أُدْنِيهِمْ إذْ أَقْصَاهُمْ اللَّهُ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: فَمِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ أَنْ يَجْعَلُوا فِي دَوَاوِينِ الْمُسْلِمِينَ يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا انْتَهَى.
وَلِأَنَّ بِالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفْسَدَةِ مَا لَا يَخْفَى، وَهُوَ مَا يَلْزَمُ عَادَةً أَوْ يُفْضِي إلَيْهِ مِنْ تَصْدِيرِهِمْ فِي الْمَجَالِسِ، وَالْقِيَامِ لَهُمْ وَجُلُوسِهِمْ وَوُقُوفِ الْمُسْلِمِينَ وَابْتِدَائِهِمْ بِالسَّلَامِ مَعَ تَذَلُّلِ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَ أَيْدِيهمْ وَخُضُوعِهِمْ لَدَيْهِمْ وَالتَّمَلُّقِ وَإِظْهَارِ الْحُبِّ، وَالْإِعْزَازِ لَهُمْ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ لِاحْتِيَاجِهِمْ إلَيْهِمْ لِكَوْنِ الدِّيوَانِ فِي أَيْدِيهِمْ.
وَذَكَرَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ أَبُو الْمَعَالِي مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ فِي كِتَابِهِ دُرَرِ الْآدَابِ وَمَحَاسِنِ ذَوِي الْأَلْبَابِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إلَى جَمِيعِ عُمَّالِهِ فِي الْآفَاقِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ عُمَرَ يُقْرِئُ عَلَيْكُمْ السَّلَامَ وَيَقْرَأُ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الْمُبِينِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] الْآيَةَ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَهْلِكْ مَنْ هَلَكَ قَبْلَكُمْ إلَّا بِمَنْعِهِ الْحَقَّ وَبَسْطِ يَدِ الظُّلْمِ، وَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ قَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا مَضَى، إذَا قَدِمُوا بَلَدًا أَتَاهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ فَاسْتَعَانُوا بِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ وَكِتَابَتِهِمْ لِعِلْمِهِمْ بِالْكِتَابَةِ، وَالْحِسَابِ وَالتَّدْبِيرِ وَلَا خِيَرَةَ