ثُمَّ أَنْشَدَ لِأَبِي مُحَمَّدٍ الْقُرْطُبِيِّ رَاوِي الْمُوَطَّأِ)
أَقِلَّ زِيَارَةَ الْإِخْوَانِ ... تَزْدَدْ عِنْدَهُمْ قُرْبًا
فَإِنَّ الْمُصْطَفَى قَدْ قَالَ ... زُرْ غِبًّا تَزِدْ حُبًّا
وَمِنْهُ حَدِيثُ: «أَغِبُّوا فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ» أَيْ لَا تَعُودُوهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ لِمَا يَجِدُ مِنْ ثِقَلِ الْعُوَّادِ انْتَهَى.
(وَفِي الْفُرُوعِ قَدْ ذَكَرَ ابْنُ الصَّيْرَفِيِّ الْحَرَّانِيُّ فِي نَوَادِرِهِ الشِّعْرَ الْمَشْهُورَ)
لَا تَضَجَّرْنَ عَلِيلًا فِي مُسَاءَلَةٍ ... إنَّ الْعِيَادَةَ يَوْمٌ بَيْنَ يَوْمَيْنِ
بَلْ سَلْهُ عَنْ حَالِهِ وَادْعُ الْإِلَهَ لَهُ ... وَاجْلِسْ بِقَدْرِ فَوَاقٍ بَيْنَ حَلْبَيْنِ
مَنْ زَارَ غِبًّا أَخًا دَامَتْ مَوَدَّتُهُ ... وَكَانَ ذَاكَ صَلَاحًا لِلْخَلِيلَيْنِ
فَمِنْ ثَمَّ قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَ (خَفِّفْ) فِي الْعِيَادَةِ وَلَا تُطِلْ الْجُلُوسَ عِنْدَهُ لِإِضْجَارِهِ، وَمَنْعِ بَعْضِ تَصَرُّفَاتِهِ وَعَنْهُ كَبَيْنَ خُطْبَتَيْ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ وَيَتَوَجَّهُ اخْتِلَافُهُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ وَالْعَمَلِ بِالْقَرَائِنِ وَظَاهِرِ الْحَالِ وَمُرَادِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ.
وَهَذَا اخْتِيَارُ النَّاظِمِ؛ وَلِذَا قَالَ: (وَمِنْهُمْ) أَيْ الْمَرْضَى (الَّذِي) لَا يُحِبُّ التَّخْفِيفَ، بَلْ (يُؤْثِرُ) أَيْ يَطْلُبُ وَيُحِبُّ وَيُقَدِّمُ (التَّطْوِيلَ) أَيْ تَطْوِيلَ الْجُلُوسِ عِنْدَهُ الْكَائِنِ (مِنْ) صَدِيقٍ وَنَحْوِ (مُتَوَرِّدٍ) أَيْ طَالِبِ الْوُرُودِ إلَيْهِ مِنْ وَرَدَ الْمَاءَ، وَالْمُرَادُ مِنْ صَدِيقٍ عَائِدٍ.
فَفَكِّرْ وَرَاعِ فِي الْعِيَادَةِ حَالَ مَنْ ... تَعُودُ وَلَا تُكْثِرْ سُؤَالًا تُنَكِّدْ
(فَ) إذَا فَهِمْت هَذَا مَعَ مَا اخْتَارَهُ صَاحِبُ الْفُرُوعِ فَ (فَكِّرْ) أَيْ اسْتَعْمِلْ فِكْرَك فِي إطَالَةِ الْجُلُوسِ عِنْدَ مَنْ عُدْته وَعَدَمِهَا يَدُلُّك صَحِيحُ الْفِكْرِ مَعَ الْقَرِينَةِ عَلَى الْأَصْلَحِ مِنْهَا، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْفِكْرُ بِالْكَسْرِ وَيُفْتَحُ إعْمَالُ النَّظَرِ فِي الشَّيْءِ كَالْفِكْرَةِ، وَالْفِكْرِيِّ انْتَهَى.
وَفِي مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ الْفِكْرُ هُوَ إحْضَارُ مَعْرِفَتَيْنِ فِي الْقَلْبِ يَسْتَثْمِرُ مِنْهُمَا مَعْرِفَةً ثَالِثَةً، وَمِثَالُ ذَلِكَ أَحْضَرَ فِي قَلْبِهِ الْعَاجِلَةَ وَعَيْشَهَا وَنَعِيمَهَا وَمَا تَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ الْآفَاتِ وَانْقِطَاعِهِ وَزَوَالِهِ، ثُمَّ أَحْضَرَ فِي قَلْبِهِ الْآخِرَةَ وَنَعِيمَهَا وَلَذَّتَهَا وَدَوَامَهُ وَفَضَّلَهُ عَلَى نَعِيمِ الدُّنْيَا وَجَزَمَ بِهَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ، أَثْمَرَ لَهُ ذَلِكَ عِلْمًا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنَّ الْآخِرَةَ وَنَعِيمَهَا الْفَاضِلَ الدَّائِمَ أَوْلَى عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ بِإِيثَارِهِ مِنْ الْعَاجِلَةِ الْمُنَغَّصَةِ (وَ) إذَا وَصَلَ بِك صَحِيحُ الْفِكْرِ