وَرَجِّحْ عَلَى الْخَوْفِ الرَّجَا عِنْدَ بَأْسِهِ ... وَلَاقِ بِحُسْنِ الظَّنِّ رَبَّك تَسْعَدْ
(وَرَجِّحْ) أَيْ غَلِّبْ وَمَيِّزْ، مِنْ رَجَحَ الْمِيزَانُ يَرْجَحُ مُثَلَّثَةٌ رُجُوحًا وَرُجْحَانًا مَالَ (عَلَى الْخَوْفِ) ضِدُّ الْأَمْنِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْفَزَعُ. قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: الْوَجَلُ وَالْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ وَالرَّهْبَةُ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ غَيْرُ مُتَرَادِفَةٍ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْخَوْفُ تَوَقُّعُ الْعُقُوبَةِ عَلَى مَجَارِي الْأَنْفَاسِ. وَقِيلَ الْخَوْفُ اضْطِرَابُ الْقَلْبِ وَحَرَكَتُهُ مِنْ تَذَكُّرِ الْمَخُوفِ. وَقِيلَ الْخَوْفُ قُوَّةُ الْعِلْمِ بِمَجَارِي الْأَحْكَامِ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: هَذَا سَبَبُ الْخَوْفِ لَا نَفْسُهُ. وَقِيلَ الْخَوْفُ هَرَبُ الْقَلْبِ مِنْ حُلُولِ الْمَكْرُوهِ عِنْدَ اسْتِشْعَارِهِ. وَفِي مَتْنِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: الْخَوْفُ الِانْخِلَاعُ عَنْ طُمَأْنِينَةِ الْأَمْنِ بِمُطَالَعَةِ الْجَزَاءِ. قَالَ الْمُحَقِّقُ: وَالْخَشْيَةُ أَخَصُّ مِنْ الْخَوْفِ فَإِنَّهَا لِلْعُلَمَاءِ بِاَللَّهِ.
قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] فَهِيَ خَوْفٌ مَقْرُونٌ بِمَعْرِفَةٍ. «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً» فَالْخَوْفُ حَرَكَةٌ، وَالْخَشْيَةُ انْجِمَاعٌ وَانْقِبَاضٌ وَسُكُونٌ. فَإِنَّ الَّذِي يَرَى الْعَدُوَّ وَالسَّيْلَ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَهُ حَالَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: حَرَكَتُهُ لِلْهَرَبِ مِنْهُ وَهِيَ حَالَةُ الْخَوْفِ.
وَالثَّانِيَةُ: سُكُونُهُ وَقَرَارُهُ فِي مَكَان لَا يَصِلُ إلَيْهِ وَهِيَ الْخَشْيَةُ.
قَالَ وَأَمَّا الرَّهْبَةُ فَهِيَ الْإِمْعَانُ فِي الْهَرَبِ مِنْ الْمَكْرُوهِ، وَهِيَ ضِدُّ الرَّغْبَةِ الَّتِي هِيَ سَفَرُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ. وَبَيْنَ الرَّهَبِ وَالْهَرَبِ تَنَاسُبٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا الِاشْتِقَاقُ الْأَوْسَطُ الَّذِي هُوَ عَقْدُ تَقَالِيبِ الْكَلِمَةِ عَلَى مَعْنًى جَامِعٍ. وَأَمَّا الْوَجَلُ فَرَجَفَانُ الْقَلْبِ وَانْصِدَاعُهُ لِذِكْرِ مَنْ يَخَافُ سُلْطَانَهُ وَعُقُوبَتَهُ أَوْ لِرُؤْيَتِهِ.
وَأَمَّا الْهَيْبَةُ فَخَوْفٌ مُقَارِنٌ لِلتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَأَكْثَرُهَا تَكُونُ مَعَ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ. وَالْإِجْلَالُ تَعْظِيمٌ مَقْرُونٌ بِالْحُبِّ. فَالْخَوْفُ لِعَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْخَشْيَةُ لِلْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ، وَالْهَيْبَةُ لِلْمُحِبِّينَ، وَالْإِجْلَالُ لِلْمُقَرَّبِينَ، وَعَلَى قَدْرِ الْعِلْمِ يَكُونُ الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنِّي لَأَعْلَمُكُمْ بِاَللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً» وَقَالَ «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ