(تَنْبِيهَاتٌ)
(الْأَوَّلُ) : ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ الْحُرْمَةُ لَا الْكَرَاهَةُ، فَإِنَّهُ مَتَى انْتَفَى الْحِلُّ خَلَفَهُ الْحَظْرُ، وَجَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ نَسَخَهُ. وَالْمُعْتَمَدُ فِقْهًا يُكْرَهُ ذَلِكَ تَنْزِيهًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الثَّانِي) : مَفْهُومُ كَلَامِ النَّاظِمِ لَوْ كَانُوا أَرْبَعَةً فَتَنَاجَى ثَلَاثَةٌ دُونَ الرَّابِعِ أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ. قَالَ فِي الرِّعَايَةِ: وَيُكْرَهُ أَنْ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ ثَالِثِهِمَا. وَفِي الْمُجَرَّدِ: وَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ. قَالَ فِي الْآدَابِ: وَمُرَادُهُمْ جَمَاعَةٌ دُونَ وَاحِدٍ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَجَّاوِيُّ: وَلَا يُكْرَهُ إلَّا إذَا كَانُوا ثَلَاثَةً لَا أَرْبَعَةً فَأَكْثَرَ. فَقَوْلُ النَّاظِمِ الْجَمْعُ يُحْمَلُ عَلَى الِاثْنَيْنِ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْجَمْعِ عَلَى قَوْلٍ.
وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِالْجَمْعِ الثَّلَاثَةُ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْكَرَاهَةِ إذَا كَانُوا أَرْبَعَةً وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا كَانُوا ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ» أَخْرَجَاهُ وَزَادَ أَبُو صَالِحٍ قُلْت لِابْنِ عُمَرَ فَأَرْبَعَةٌ؟ قَالَ لَا يَضُرُّك رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ وَقَالَ كُنْت أَنَا وَابْنُ عُمَرَ عِنْدَ دَارِ خَالِدِ بْنِ عُقْبَةَ الَّتِي فِي السُّوقِ فَجَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يُنَاجِيَهُ وَلَيْسَ مَعَ ابْنِ عُمَرَ أَحَدٌ غَيْرِي، فَدَعَا ابْنُ عُمَرَ رَجُلًا آخَرَ حَتَّى كُنَّا أَرْبَعَةً، فَقَالَ لِي وَلِلرَّجُلِ الثَّالِثِ الَّذِي دَعَا اسْتَأْخِرَا شَيْئًا فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ فَإِنْ كَانُوا أَرْبَعَةً فَيَتَنَاجَى اثْنَانِ» لَمْ يُكْرَهْ لِقِصَّةِ ابْنِ عُمَرَ وَأَمَّا أَنْ يَتَنَاجَى مِنْ الْأَرْبَعَةِ ثَلَاثَةٌ دُونَ وَاحِدٍ فَالْأَظْهَرُ الْكَرَاهَةُ.
وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ فِي كَلَامِ الْحَجَّاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُسَامَحَةً فِي حَمْلِ كَلَامِ النَّاظِمِ عَلَى مَا حَمَلَهُ، وَهَلْ أَحَدٌ قَالَ: إنَّ الْجَمْعَ اثْنَانِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا قَالُوا أَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَانِ عَلَى مَذْهَبٍ وَهُوَ مَرْجُوحٌ، وَقَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا قَابَلَهُ مِنْ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا كَوْنُ أَقَلِّ الْجَمْعِ اثْنَيْنِ إنَّمَا وَرَدَ فِي حَجْبِ الْأُمِّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ. وَهَذَا الْجَمْعُ قَلِيلٌ جِدًّا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، لَكِنْ مَا أَحَدٌ قَالَ إنَّ الْجَمْعَ لَا يُطْلَقُ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَأَكْثَرَ. وَصَاحِبُ الْآدَابِ الْكُبْرَى قَالَ مُرَادُهُمْ جَمَاعَةٌ دُونَ وَاحِدٍ، وَاسْتَشْهَدَ بِكَلَامِ النَّاظِمِ وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافَهُ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ الْحَجَّاوِيِّ بِقَصِّهِ ابْنِ دِينَارٍ مَعَ ابْنِ عُمَرَ وَمُنَادَاتُهُ