شَمْسُ الدِّينِ فِي نَزْعِ ثِيَابِهِ، مُصِيخًا لِتَيْمُورْ وَمَا يَصْدُرُ مِنْ جَوَابِهِ، فَفَكَّك أَزْرَارَهُ، وَقَالَ لِنَفْسِهِ إنَّمَا أَنْتَ إعَارَةٌ. وَكَأْسُ الْمَوْتِ لَا بُدَّ مِنْ شُرْبِهَا، فَسَوَاءٌ مَا بَيْنَ بُعْدِهَا وَقُرْبِهَا، وَالْمَوْتُ عَلَى الشَّهَادَةِ، مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَةِ، وَأَفْضَلِ أَحْوَالِهَا لِمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ إلَى اللَّهِ صَائِرٌ، كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ.
فَقَالَ لَهُ تَيْمُورُ مَا حَمَلَك عَلَى نَزْعِ ثِيَابِك؟ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ بَذْلًا لِنَفْسِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا لِعِقَابِك. فَقَالَ لَهُ قَدْ وَسِعَك حِلْمُنَا. فَلَا تُعْدَمُ سِلْمَنَا.
فَقَالَ لَهُ أَيُّهَا السُّلْطَانُ الْجَلِيلُ: حَيْثُ مَنَنْت بِالْحِلْمِ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الذَّلِيلِ، فَلْيَكُنْ الْأَمَانُ مَصْحُوبًا بِالتَّفْضِيلِ، مِنْ صَوْلَةِ بَعْضِ الْعَسْكَرِ الَّذِي عِدَّةُ مِلَلِهِ تَفُوقُ عَلَى أُمَمِ بَنِي إسْرَائِيلَ. فَفِيهِمْ مَنْ ابْتَدَعُوا بِدَعًا، وَقَطَعُوا فِي مَذَاهِبِهِمْ قَطْعًا، وَمَزَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا.
وَلَا شَكَّ أَنَّ مَجَالِسَ حَضْرَتِك تُنْقَلُ، وَتَخُصُّ فِي سَرَيَانِهَا وَتَشْمَلُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْجَوَابُ عَنِّي، وَوَعَاهُ أَحَدٌ عَنْ سِنِّي خُصُوصًا مَنْ ادَّعَى مُوَالَاةَ عَلِيٍّ، وَيُسَمَّى فِي رَفْضِهِ مَنْ وَالَى أَبَا بَكْرٍ بِالنَّاصِبِيِّ، وَتَحَقَّقَ مِنِّي يَقِينِي، وَأَنَّهُ لَا نَاصِرَ لِي يَقِينِي، فَإِنَّهُ يَقْتُلُنِي جِهَارًا، وَيُرِيقُ دَمِي نَهَارًا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَنَا أَسْتَعِدُّ لِهَذِهِ السَّعَادَةِ، وَأَخْتِمُ أَحْكَامَ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ.
فَقَالَ لَهُ تَيْمُورُ: لِلَّهِ دَرُّك مَا أَفْصَحَك، وَأَنْصَرَك لِمَقَالَتِك، وَأَنْصَحَك، فَأَمَرَ بِجَمَاعَةٍ يُشَيِّعُونَهُ، وَيَحْرُسُونَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ فِي ذَهَابِهِ لِدَارِهِ وَيَحْفَظُونَهُ فَأَحَاطَتْ بِهِ الْجُنْدُ إحَاطَةَ الْهَالَةِ بِالْقَمَرِ، وَصَارُوا حَوْلَهُ كَالسُّوَرِ حَوْلَ الْمِسْوَرِ. وَمَعَ هَذَا فَقَدْ وَكَزَهُ بَعْضُ الطَّغَامِ، مِنْ تِلْكَ الْعَسَاكِرِ الرَّعَاعِ الْغِشَامِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِحُصُولِ السَّعَادَةِ.
فَجَرَى مَا جَرَى وَخَتَمَ اللَّهُ عَمَلَهُ بِالشَّهَادَةِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ ابْنُ عَرَبْ شَاهْ فِي تَارِيخِ تَيْمُورَ، وَالشَّيْخُ الْعُلَيْمِيِّ فِي الْمَقْصَدِ الْأَحْمَدِ، تَرَاجِمِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد. - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -.
وَلَمَّا وَعَظَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْخَلِيفَةَ (الْمُسْتَضِيءَ بِأَمْرِ اللَّهِ) سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ قَالَ لَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَوْ أَنِّي مَثُلْت بَيْنَ يَدَيْ السُّدَّةِ الشَّرِيفَةِ لَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: كُنْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ مَعَ حَاجَتِك إلَيْهِ كَمَا كَانَ لَك مَعَ غِنَاهُ عَنْك أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ أَحَدًا فَوْقَك، فَلَا تَرْضَى أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَشْكَرَ لَهُ مِنْك. فَتَصَدَّقْ بِصَدَقَاتٍ وَأَطْلِقْ مَحْبُوسِينَ.