وَأَنْشَدَ لِأَبِي الْعَتَاهِيَةِ قَوْلَهُ:
وَبَّخْت غَيْرَك بِالْعَمَى فَأَفَدْتَهُ ... بَصَرًا وَأَنْتَ مُحْسِنٌ لِعَمَاكَا
وَفَتِيلَةُ الْمِصْبَاحِ تَحْرِقُ نَفْسَهَا ... وَتُضِيءُ لِلْأَعْشَى وَأَنْتَ كَذَاكَا
وَذَكَرَ أَنَّ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ السَّالِفَةِ: إذَا أَرَدْت أَنْ تَعِظَ النَّاسَ فَعِظْ نَفْسَك، فَإِنْ اتَّعَظَتْ وَإِلَّا فَاسْتَحِ مِنِّي، ثُمَّ أَنْشَدَ:
وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى ... طَبِيبٌ يُدَاوِي النَّاسَ وَهُوَ سَقِيمٌ
وَأَنْشَدَ أَيْضًا:
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُقَوِّمُ غَيْرَهُ ... هَلَّا لِنَفْسِك كَانَ ذَا التَّقْوِيمُ
فَابْدَأْ بِنَفْسِك فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا ... فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ يُقْبَلُ مَا تَقُولُ وَيُقْتَدَى ... بِالْقَوْلِ مِنْك وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ
وَلَمَّا جَلَسَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ الْوَاعِظُ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ الصَّالِحَاتِ فَأَنْشَدَتْهُ:
يَا وَاعِظًا قَامَ لِاحْتِسَابِ ... يَزْجُرُ قَوْمَهُ عَنْ الذُّنُوبِ
تَنْهَى وَأَنْتَ الْمُرِيبُ حَقًّا ... هَذَا سَنُّ الْمُنْكَرِ الْعَجِيبِ
لَوْ كُنْت أَصْلَحْت قَبْلَ هَذَا ... عَيْبَك أَوْ تُبْت مِنْ قَرِيبِ
كَانَ لِمَا قُلْت يَا حَبِيبِي ... مَوْقِعُ صِدْقٍ مِنْ الْقُلُوبِ
تَنْهَى عَنْ الْغَيِّ وَالتَّمَادِي ... وَأَنْتَ فِي النَّهْيِ كَالْمُرِيبِ
قَالَ فِي اللَّطَائِفِ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ، فَقَالَ إنْ لَمْ تَخْشَ أَنْ تَفْضَحَك هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فَافْعَلْ وَإِلَّا فَابْدَأْ بِنَفْسِك، ثُمَّ تَلَا {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] وَقَالَ تَعَالَى {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] وقَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] .
فَإِنْ قَلْت: هَذِهِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ أَوْ الْآثَارُ الصَّرِيحَةُ تُعَيِّنُ اعْتِبَارَ عَدَالَةِ الْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَرِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَكْمَلُ وَالْأَفْضَلُ. وَنَحْنُ نَقُولُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَكُونَ تَقِيًّا عَدْلًا، وَلَكِنْ فَلَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ