وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي آخِرِ الْإِرْشَادِ: مِنْ شُرُوطِ الْإِنْكَارِ أَنْ يَعْلَمَ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى مَفْسَدَةٍ. وَحُكِيَ عَنْهُ فِي الْفُرُوعِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْفُنُونِ: مِنْ أَعْظَمِ مَنَافِعِ الْإِسْلَامِ وَآكَدِ قَوَاعِدِ الْأَدْيَانِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالتَّنَاصُحُ، فَهَذَا أَشَقُّ مَا يَحْمِلُهُ الْمُكَلَّفُ لِأَنَّهُ مَقَامُ الرُّسُلِ حَيْثُ يَنْقُلُ صَاحِبَهُ عَنْ الطِّبَاعِ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ نُفُوسُ أَهْلِ اللَّذَّاتِ، وَتَمْقُتُهُ أَهْلُ الْخَلَاعَةِ وَهُوَ إحْيَاءٌ لِلسُّنَنِ وَإِمَاتَةٌ لِلْبِدَعِ، إلَى أَنْ قَالَ: لَوْ سَكَتَ الْمُحِقُّونَ وَنَطَقَ الْمُبْطِلُونَ لَتَعَوَّدَ النَّشْءُ مَا شَاهَدُوا، وَأَنْكَرُوا مَا لَمْ يُشَاهِدُوا.
فَمَتَى رَامَ الْمُتَدَيِّنُ إحْيَاءَ سُنَّةٍ أَنْكَرَهَا النَّاسُ فَظَنُّوهَا بِدْعَةً، وَقَدْ رَأَيْنَا ذَلِكَ، فَالْقَائِمُ بِهَا يُعَدُّ مُبْتَدِعًا وَمُبْدِعًا، كَمَنْ بَنَى مَسْجِدًا سَاذَجًا، أَوْ كَتَبَ مُصْحَفًا بِلَا زُخْرُفٍ أَوْ صَعِدَ مِنْبَرًا فَلَمْ يَتَسَوَّدْ وَلَمْ يَدُقَّ سَيْفَ مَرَاقِي الْمِنْبَرِ، وَلَمْ يَصْعَدْ عَلَى عَلَمٍ وَلَا مَنَارَةٍ، وَلَا يَنْشُرُ عَلَمًا.
فَالْوَيْلُ لَهُ مِنْ مُبْتَدِعٍ عِنْدَهُمْ، أَوْ أَخْرَجَ مَيِّتًا لَهُ بِغَيْرِ صُرَاخٍ وَلَا تَخْرِيقٍ، وَلَا قَرَأَ وَلَا ذَكَرَ صَحَابَةً عَلَى النَّعْشِ وَلَا قَرَابَةً. انْتَهَى.
فَالْبِدْعَةُ صَارَتْ مَأْلُوفَةً، وَالسُّنَنُ مُنْكَرَةً غَيْرَ مَعْرُوفَةٍ، فَيَحْتَاجُ الْآمِرُ النَّاهِي إلَى مَزِيدِ صَبْرٍ وَتَسْلِيمٍ، وَاسْتِعَانَةٍ بِالْعَزِيزِ الْحَلِيمِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ: إذَا أَمَرْت أَوْ نَهَيْت فَلَمْ يَنْتَهِ فَلَا تَرْفَعْهُ إلَى السُّلْطَانِ لِيُعْدَى عَلَيْهِ. فَقَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَيْضًا: مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ خَوْفَ التَّلَفِ، وَكَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ «لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ، قِيلَ كَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قَالَ يَتَعَرَّضُ مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَا يُطِيقُ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا.
وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ بَعْضِهِمْ وُجُوبَ الْإِنْكَارِ مُطْلَقًا فِي هَذِهِ الْحَالِ وَغَيْرِهَا. وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَقِيلَ إنْ زَادَ يَعْنِي الْأَذَى عَلَى الْمُنْكَرِ وَجَبَ الْكَفُّ، وَإِنْ تَسَاوَيَا سَقَطَ الْإِنْكَارُ يَعْنِي وُجُوبَهُ.
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فَأَمَّا السَّبُّ وَالشَّتْمُ فَلَيْسَ بِعُذْرٍ فِي السُّكُوتِ لِأَنَّ الْآمِرَ بِالْمَعْرُوفِ يَلْقَى ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ أَنَّهُ عُذْرٌ لِأَنَّهُ أَذًى، وَلِهَذَا يَكُونُ تَأْدِيبًا وَتَعْزِيرًا، وَقَدْ قَالَ لَهُ يَعْنِي لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -