أَكُفَّ شَعْرًا وَلَا ثَوْبًا» يَعْنِي فِي الصَّلَاةِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى أَيْ لَا أَمْنَعُهُمَا مِنْ الِاسْتِرْسَالِ حَالَ السُّجُودِ لِيَقَعَا عَلَى الْأَرْضِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ أَيْ لَا أَجْمَعُهُمَا وَأَضُمُّهُمَا كَمَا النِّهَايَةُ (جَوَارِحُ) جَمْعُ جَارِحَةٍ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا.
وَدَلِيلُ وُجُوبِ كَفِّهَا عَنْ الْمَحْظُورِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} [الإسراء: 36] وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْجَوَارِحِ وَصَوْنُهَا وَكَفُّهَا، وَإِنَّمَا أَعَادَهُ هُنَا لِذِكْرِهِ إيَّاهُ مُجْمَلًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ، إذْ النَّهْيُ يَتَنَاوَلُهُمَا كَمَا أَسْلَفْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ آنِفًا، وَأَمَّا هُنَا فَذَكَرَ أَنَّ كَفَّهَا عَنْ الْمَحْظُورِ وَاجِبٌ كَكَفِّ يَدِهِ عَنْ سَرِقَةٍ وَغَصْبٍ وَقَتْلٍ وَجَرْحٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَلِسَانِهِ عَنْ غِيبَةٍ وَنَمِيمَةٍ وَلَعْنٍ وَقَذْفٍ وَبَذَاءٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَفَرْجِهِ عَنْ زِنَاءٍ وَمُبَاضَعَةٍ وَمُسَاحَقَةٍ وَجِمَاعِ نَحْوِ زَوْجَةٍ فِي نَحْوِ حَيْضٍ وَاسْتِمْنَاءٍ. وَعَيْنِهِ عَنْ نَظَرِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ نَظَرُهُ. وَسَمْعِهِ مِنْ اسْتِمَاعِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ غِيبَةٍ وَنَحْوِهَا، وَكَذَا عَنْ سَمَاعِ الْمَلَاهِي وَمَا حُرِّمَ مِنْ الْغِنَاءِ. وَبَطْنِهِ مِنْ الْحَرَامِ، وَقَلْبِهِ عَنْ الْآثَامِ. وَاسْتِرْسَالِهِ مَعَ الْأَوْهَامِ.
وَكَذَا بَقِيَّةُ أَعْضَائِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ غَيْرَ مَحْظُورٍ بِأَنْ كَانَ نَهْيَ كَرَاهَةٍ فَكَفُّ الْجَوَارِحِ عَنْهُ (نَدْبٌ) لَا وُجُوبٌ، وَأَصْلُ النَّدْبِ الدُّعَاءُ لِأَمْرٍ مُهِمٍّ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
لَا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ ... فِي النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانًا
وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ «انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ يَخْرُجُ فِي سَبِيلِهِ» أَيْ أَجَابَ لَهُ طَلَبَ مَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ. وَالِاسْمُ النُّدْبَةُ مِثْلُ غُرْفَةٍ. وَالْمَنْدُوبُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مَا أُثِيبَ فَاعِلُهُ كَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ وَلَوْ قَوْلًا كَأَذْكَارِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ، أَوْ عَمَلِ قَلْبٍ كَالْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يُعَاقَبْ تَارِكُهُ.
وَيُسَمَّى الْمَنْدُوبُ سُنَّةً وَمُسْتَحَبًّا وَتَطَوُّعًا وَطَاعَةً وَنَفْلًا وَقُرْبَةً وَمُرَغَّبًا فِيهِ وَإِحْسَانًا. قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ حَمْدَانَ فِي مُقْنِعِهِ: وَيُسَمَّى النَّدْبُ تَطَوُّعًا وَطَاعَةً وَنَفْلًا وَقُرْبَةً إجْمَاعًا وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَسَبِ اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ.
وَأَمَّا الْمُحَدِّثُونَ فَيَخُصُّونَ الْمَسْنُونَ بِمَا ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَتَقْرِيرَاتِهِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ. قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الْوُسْطَى: وَيَجِبُ كَفُّ يَدِهِ وَفَمِهِ وَفَرْجِهِ وَبَقِيَّةِ أَعْضَائِهِ عَمَّا يَحْرُمُ، وَيُسَنُّ (مِنْ الْمَكْرُوهِ) وَهُوَ ضِدُّ الْمَنْدُوبِ، مَأْخُوذٌ مِنْ الْكَرَاهَةِ وَقِيلَ مِنْ الْكَرِيهَةِ وَهِيَ الشِّدَّةُ فِي الْحَرْبِ وَفِي اصْطِلَاحِ