لَوْ كُنْت أَجْهَلُ مَا عَلِمْت لَسَرَّنِي ... جَهْلِي كَمَا قَدْ سَاءَنِي مَا أَعْلَمُ
كَالصَّقْرِ يَرْتَعُ فِي الرِّيَاضِ وَإِنَّمَا ... حُبِسَ الْهَزَارُ لِأَنَّهُ يَتَرَنَّمُ
وَلَا مَعْنَى لِلْإِطْنَابِ فِي نَقْلِ كَلَامِ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ وَالْآدَابِ، مِنْ الْحِكَمِ الَّتِي أَوْدَعُوهَا فِي هَذَا الْبَابِ، وَيَكْفِيك إنْ كُنْت ذَا أَدَبٍ، نَفْيُ الطُّغْرَائِيِّ الْعَجَبَ لِهَذَا السَّبَبِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُسْتَقِرًّا عِنْدَ ذَوِي الْفُهُومِ وَالْحَقَائِقِ وَالْعُلُومِ، أَنَّ أَسْعَدَ النَّاسِ بِالْحُطَامِ الْجَهُولُ الْغَشُومُ، وَأَقَلَّ النَّاسِ حَظًّا مِنْهُ ذُو الشَّرَفِ الْبَاذِخِ، وَالْقَدَمِ الرَّاسِخِ، فِي إدْرَاكِ الْمَنْطُوقِ وَالْمَفْهُومِ، جَعَلَ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَجْهُولٍ عِنْدَ النَّاسِ، وَلَا مُتَعَجَّبٌ مِنْهُ بَلْ مَعْلُومٌ.
فَقَالَ:
مَا كُنْت أُوثِرُ أَنْ يَمْتَدَّ بِي زَمَنِي ... حَتَّى أَرَى دَوْلَةَ الْأَوْغَادِ وَالسُّفَّلِ
تَقَدَّمَتْنِي أُنَاسٌ كَانَ شَوْطُهُمْ ... وَرَاءَ خَطْوِي إذْ أَمْشِي عَلَى مَهَلِ
هَذَا جَزَاءُ امْرِئٍ أَقْرَانُهُ دَرَجُوا ... مِنْ قَبْلِهِ فَتَمَنَّى فُسْحَةَ الْأَجَلِ
فَإِنْ عَلَانِي مَنْ دُونِي فَلَا عَجَبٍ ... لِي أُسْوَةٌ بِانْحِطَاطِ الشَّمْسِ عَنْ زُحَلِ
فَإِنَّ الشَّمْسَ أَشْرَفُ الْكَوَاكِبِ، وَهِيَ كَالْمَلِكِ وَسَائِرُ الْكَوَاكِبِ كَالْأَعْوَانِ وَالْجُنُودِ، وَالْقَمَرُ كَالْوَزِيرِ وَوَلِيِّ الْعَهْدِ، وَعُطَارِدُ كَالْكَاتِبِ، وَالْمِرِّيخُ كَصَاحِبِ الْجَيْشِ الَّذِي عَلَى الشُّرْطَةِ، وَالْمُشْتَرِي كَالْقَاضِي، وَزُحَلُ صَاحِبُ الْخَزَائِنِ وَالزُّهْرَةُ كَالْخَدَمِ وَالْجَوَارِي.
فَهَذِهِ الْكَوَاكِبُ السَّبْعَةُ السَّيَّارَةُ. فَالشَّمْسُ مَعَ عُلُوِّ شَأْنِهَا وَقُوَّةِ سُلْطَانِهَا فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، وَزُحَلُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَإِنَّمَا نَفَى الْعَجَبَ مِنْ تَقَدُّمِ الْأَوْغَادِ وَالسُّفَّلِ عَلَيْهِ مَعَ نَقْصِهِمْ وَنُزُولِهِمْ عَنْ عُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ وَرُسُوخِ قَدَمِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عَادَةُ الدَّهْرِ بِتَقْدِيمِ الْمَفْضُولِ عَلَى الْفَاضِلِ. كَانْحِطَاطِ الشَّمْسِ إلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ عَلَى شَرَفِهَا وَانْتِفَاعِ الْعَالَمِ بِهَا وَارْتِفَاعِ زُحَلٍ إلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ النُّجُومِ الْخُنَّسِ حَتَّى أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْرِفُهُ.
مَطْلَبٌ: فِي النَّهْي عَنْ نِسْبَةِ الْإِذْلَالِ وَالْإِعْزَازِ وَالتَّمَادِي وَالْإِنْجَازِ لِلدَّهْرِ وَأَنَّ ذَلِكَ اعْتِرَاضٌ عَلَى الصَّانِعِ جَلَّ شَأْنُهُ
(الرَّابِعُ) : قَدْ وَلِعَ النَّاسُ فِي شَكْوَى الزَّمَانِ وَالدَّهْرِ وَالْأَوَانِ، وَيَنْسِبُونَ إلَيْهِ الْإِذْلَالَ وَالْإِعْزَازَ، وَالتَّمَادِيَ وَالْإِنْجَازَ، وَالتَّأْخِيرَ وَالتَّقْدِيمَ، وَالْمُهَانَةَ