يَا وَارِدًا سُؤْرَ عَيْشٍ صَفْوُهُ كَدِرٌ ... أَنْفَقْت عُمْرَك فِي أَيَّامِك الْأُوَلِ
فِيمَا اعْتِرَاضُك لُجَّ الْبَحْرِ تَرْكَبُهُ ... وَأَنْتَ تَكْفِيك مِنْهُ مَصَّةُ الْوَشَلِ
مَلِكُ الْقَنَاعَةِ لَا يُخْشَى عَلَيْهِ وَلَا ... يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْأَنْصَارِ وَالْخَوَلِ
وَمَعْنَى الْبَيْتِ أَنَّ الْقَنَاعَةَ صَاحِبُهَا مَلِكٌ؛ لِأَنَّهُ فِي غِنًى عَنْ النَّاسِ، وَفِيهِ مَزِيَّةٌ عَلَى مِلْكِ مَا سِوَاهَا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَهِيَ أَنَّهَا غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ إلَى خَدَمٍ وَلَا أَنْصَارٍ وَعَسَاكِرَ يَحْفَظُونَهَا. وَلَا يُخْشَى عَلَيْهَا مِنْ زَوَالٍ وَلَا اغْتِصَابٍ، بِخِلَافِ مُلُوكِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى الْخَوَلِ وَالْأَنْصَارِ لِلْخِدْمَةِ، وَالِاحْتِرَازِ عَلَى نُفُوسِهِمْ مِنْ الْأَعْدَاءِ ثُمَّ هُمْ مَعَ ذَلِكَ فِي هَمٍّ وَفِكْرَةٍ فِي تَحْصِيلِ الْأَمْوَالِ وَتَدْبِيرِ الرَّعَايَا، وَفِي خَوْفٍ مِنْ زَوَالِ الْمُلْكِ، إمَّا بِغَلَبَةِ الْعَدُوِّ، وَإِمَّا بِخُرُوجِ أَحَدٍ مِنْ الرَّعَايَا عَنْ الطَّاعَةِ. وَإِمَّا بِوُثُوبِ أَحَدٍ مِنْ حَشَمِهِمْ وَخَدَمِهِمْ وَأَقَارِبِهِمْ عَلَيْهِمْ وَإِطْعَامِهِمْ السُّمَّ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَمَلِكُ الْقَنَاعَةِ سَالِمٌ مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْآفَاتِ وَكُلُّ أَمْرٍ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى تَعَبٍ وَكُلْفَةٍ خَيْرٌ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهَاتٌ) :
(الْأَوَّلُ) : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَنْ أَفْضَلُ؟ الْفَقِيرُ الصَّابِرُ أَوْ الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ؟ ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى تَفْضِيلِ الْغَنِيِّ؛ لِأَنَّ الْغِنَى مَقْدِرَةٌ وَالْفَقْرَ عَجْزٌ وَالْقُدْرَةَ أَفْضَلُ مِنْ الْعَجْزِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ النَّبَاهَةِ. قُلْت وَهُوَ ظَاهِرُ اخْتِيَارِ الْإِمَامِ الْحَافِظِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ. قَالَ فِي تَبْصِرَتِهِ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَنِيَّ إذَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِالْغِنَى عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ مَالُهُ وَقْفًا عَلَى مُسَاعَدَةِ الْفُقَرَاءِ وَأَعْمَالِ الْخَيْرِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ الْفَقِيرِ، فَإِنَّ غَايَةَ الْفَقِيرِ أَنْ يَكُونَ مُتَّقِيًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَهُ ثَوَابُ صَبْرِهِ عَنْ أَغْرَاضِهِ، وَلَا يَتَعَدَّى فِعْلُهُ إلَى النَّفْعِ لِلْغَيْرِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ فِي الْغَنِيِّ أَنْ يَشْتَغِلَ بِمَالِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُمْسِكَهُ عَنْ الْإِنْفَاقِ، وَرُبَّمَا لَمْ يَتَوَرَّعْ فِي كَسْبِهِ، وَرُبَّمَا أَطْلَقَ نَفْسَهُ فِي شَهَوَاتِهَا الْقَاطِعَةِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فُضِّلَ الْفَقِيرُ الْمُحِقُّ عَلَيْهِ فَإِنَّ هَمَّهُ أَجْمَعُ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى تَفْضِيلِ الْفَقِيرِ؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ وَالْغَنِيَّ مُلَابِسٌ، وَتَرْكُ الدُّنْيَا أَفْضَلُ مِنْ مُلَابَسَتِهَا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ