وفي أحد البلدان التي يضطهد فيها الدعاة إلى الله، وفي أثناء إحدى تلك المحاكمات الظالمة، أراد القاضي أن يستمع إلى أدلة الإثبات التي تُدين بعض الدعاة، وكانت من هذه الأدلة: تسجيلات صوتية لهم، فطلب القاضي إحضار جهاز التسجيل للاستماع لهذه التسجيلات المفتراة، وعندما جاءوه به طلب تجربة الجهاز أولاً، فبحثوا هنا وهناك حتى وجدوا (شريطا) مسجلاً عليه آيات من القرآن، فتناوله ووضعه في الجهاز، وضغط على زر التشغيل فإذا بصوت القارئ ينبعث من الجهاز، ويُجلجل في قاعة المحاكمة، وترن أصداؤه في جنباتها بقوله تعالى: {وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107]، فاضطرب القاضي ومن حوله وسارع بإغلاق الجهاز وهو في غاية التوتر.
والأمثلة كثيرة، وكلها تؤكد وتبرهن على أن لهذا الكون كله رباً واحداً، يديره، ويتابعه ويتعاهده، ويمده بما يقيمه ويصلحه ... لا يغفل عنه لحظة واحدة {يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2].
ولكي يستطيع الناس ترتيب أمورهم في الحياة، فقد جعل الله عز وجل لها نظاما تقوم عليه، وقوانين تسير عليها، وجعل سبحانه هذا النظام يقوم على قانون السببية، بمعني أن الحصول على النتائج يأتي من خلال استخدام أشياء- مادية أو معنوية- هذه الأشياء لا تُحدث بنفسها أية نتائج، ولكنها سبب وشكل وستار يتنزل عليه المدد الإلهي، فالماء جعله الله سببًا للإرواء، والطعام سببًا للشبع، والنوم سببًا للراحة .. ، ولكن بدون المدد الإلهي المتواصل فلا قيمة لهذه الأسباب، فالماء سبب شكلي للإرواء، أما الذي يروي فهو الله عز وجل، ولو لم تتنزل الفاعلية والإرواء من خزائنه- سبحانه- ما ارتوى الظمآن، وهكذا في بقيه الأمور، ويُجسّد هذا المعني بوضوح قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ - وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 14 - 15]، وقول جبريل عليه السلام لمحمد صلى الله عليه وسلم: «بسم الله أرقيك والله يشفيك» (?).
فله وحده الفاعلية المطلقة في هذا الكون، فهو سبحانه الذي يحملنا في البر والبحر والجو، وما السيارة، وما الطائرة، وما أرجلنا إلا أسباب شكلية لا قيمة لها بدون المدد الإلهي: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22].
تأمل معي قوله تعالى في بيان هذه الحقيقة في قصة نجاة نوح -عليه السلام- من الغرق بعد ركوبه السفينة التي مكث طويلاً في بنائها: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر: 13].
نعم أخي هذه هي الحقيقة، فالذي حمل نوحاً- عليه السلام- هو الله، وما السفينة إلا ألواح خشبية ومسامير لا قيمة لها بدون المدد الإلهي {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:41].
فإن كانت الحياة قائمة على قانون السببية، إلا أن الحقيقة التي لا مرية فيها هي أن الله عز وجل هو الذي يحرك كل شيء في هذا الكون، وهو الذي يُنشىء النتائج من خلال الأسباب، أو بدونها {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52].
{قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47].