هاجروا وهم لا يعلمون ماذا سيحدث لهم بعد ذلك؟ هل سيجدون لهم مأوى؟ هل سيعيشون آمنين؟ هل سيجدون ما يأكلونه ويعيشون منه؟ هل .. هل، لكنهم هاجروا ونُصب أعينهم ابتغاء رضوان الله عز وجل، والانتصار له سبحانه ولرسوله ... وكانوا صادقين في هذا {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8]، فأصبحوا خلال سنوات معدودة سادة الدنيا، وأوفى الله بعهده معهم ومكنهم في الأرض {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ} [التوبة: 111].
ونحن في هذه المرحلة الدقيقة التي تمر بها أمتنا نحتاج إلى هجرة أخرى، ولكنها من نوع خاص ..
نحتاج إلى هجرة معنوية من هموم الدنيا، إلى همٍّ واحد هو العمل على رضا الله ونصرة دينه.
هجرة من طموحات الطين إلى طموحات الدين.
إنها هجرة عظيمة تحتاج إلى قرار وعزم وتصميم.
هجرة لابد منها إن أردنا أن نكون من الجيل الذي يستخدمه الله عز وجل لإيقاظ الأمة وإنقاذ البشرية، بعد أن تفيض عليه السعادة في ذات نفسه.
إنها لا تحتاج منك إلى ترك عملك، أو دراستك، أو أهلك، بل تحتاج إلى قرار تتخذه، وعزم تعزم عليه بأن تكون حياتك الباقية لخدمة هذا الدين وإيقاظ الأمة، فإن رأى الله منك صدقا أكيدا في عزمك فسيهيئ لك الأسباب التي تساعدك على تنفيذ ما عزمت عليه، وسيريح بالك من هموم الدنيا .. وإن ضاقت عليك.
* هيا خذ القرار الآن، وارفع يديك متضرعا إلى مولاك واطلب منه- صادقا- الإعانة والتوفيق، وضع نصب عينيك قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، وليعزم المسألة، وليعظم الرغبة، فإن الله لا يعظم عليه شيء أعطاه» (?).
وتذكر وصية عبد القادر الجيلاني:
يا غلام! لا يكن همك ما تأكل وما تشرب، وما تلبس، وما تنكح، وما تسكن، وما تجمع، كل هذا هم النفس والطبع، فأين هم القلب؟ همُّك ما أهمك، فليكن همك ربك عز وجل وما عنده.
وتمثل دوما قول الشاعر:
قد رشحوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل