عرف نفسه بما حدث لأبيه رضي الله عنه في هذا الخبر على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على تفوق عمر بن عبد العزيز في المجال الأخلاقي، وذلك بتقدير أهل الفضل، والتقدم في خدمة الإسلام والمسلمين، فإن ما حدث لقتادة رضي الله عنه من اقتلاع عينه بتلك الصورة شاهد على إيغاله في القتال وتعرضه للمهالك، كما أنه شرف له أن تمثلت فيه تلك المعجزة النبوية (?). ومن تقديره لأهل الفضل ما قام به لزياد مولى ابن عياش، فقد قدم عليه زياد مولى ابن عياش، وأصحاب له، فأتى الباب وبه جماعة من الناس فأذن له دونهم، فدخل عليه فنسي أن يسلم عليه بالخلافة، ثم ذكر فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال له عمر: والأُولى لم تضرني، ثم نزل عمر عن موضع كان عليه إلى الأرض وقال: إني أعظم أن أكون في موضع أعلو فيه على زياد، فلما قضي زياد ما يريد خرج، فأمر عمر خازن بيت المال أن يفتحه لزياد ومن معه يأخذون منه حاجتهم، فنظر إليه خازن بيت المال فاقتحمته عينه أن يكون يُفتح لمثله بيت المال ويسلَّطُ عليه ـ وهو به غير عارف ـ ففعل الخازن ما أمر به، فدخل زياد فأخذ لنفسه ولأصحابه بضعاً وثمانين درهماً أو بضعاً وتسعين درهماً، فلما رأى ذلك الخازن قال: أمير المؤمنين أعلم بمن يسلط على بيت المال (?).
ففي هذا الخبر صور من تواضع عمر بن عبد العزيز رحمه الله وتقديره للعلماء الربانيين فهو أولاً لم يبال بلقب الخلافة وهو أعلى لقب عند المسلمين، والمناصب لها فتنة يقع في حبائلها من اغتروا بالجاه والمنزلة الدنيوية، أما أقوياء الإيمان فإن شخصيتهم لا تتغير بعد المنصب بل يظلون على ما هم عليه من التواضع، وربما زادوا تواضعاً في مقابلة احترام الناس لهم. ثم هو ثانياً نزل من مكانه حتى لا يعلو ذلك العالم الرباني زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، وكون ذلك العالم من الموالي لا ينزل من قدره ابن عمر، فإن العبرة بالعلم والتقوى لا بشرف النسب، وموقف كريم لهذا العالم الرباني حيث لم يأخذ من بيت المال إلا ذلك القدر الزهيد مع أنه قد مكن منه، وهذا مثال رفيع من أمثلة الزهد والورع، وحين ما تكون النفوس كبيرة والعقول راجحة فإنها تعف عن متاع