: (يَقُول) ، جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال. قَوْله: (فَيحسن) من الْإِحْسَان، وَمعنى: إِحْسَان الْوضُوء الْإِتْيَان بِهِ تَاما بِصفتِهِ وآدابه وتكميل سنَنه، وَهُوَ بِالرَّفْع عطف على قَوْله: (لَا يتَوَضَّأ) وَكلمَة: الْفَاء، هَهُنَا بِمَعْنى: ثمَّ، لِأَن إِحْسَان الْوضُوء لَيْسَ مُتَأَخِّرًا عَن الْوضُوء حَتَّى يعْطف عَلَيْهِ بِالْفَاءِ التعقيبية، وَإِنَّمَا موقعها موقع ثمَّ، الَّتِي لبَيَان الْمرتبَة، وشرفها دلَالَة على أَن الْإِحْسَان فِي الْوضُوء والإجادة من مُحَافظَة السّنَن ومراعاة الأداب، أفضل وأكمل من أَدَاء مَا وَجب مُطلقًا، وَلَا شكّ أَن الْوضُوء المحسن فِيهِ أَعلَى رُتْبَة من الْغَيْر المحسن فِيهِ. قَوْله: (وَيُصلي الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة) وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (فَيصَلي هَذِه الصَّلَوَات الْخمس) . قَوْله: (إلاَّ غفر لَهُ) التَّقْدِير: لَا يتَوَضَّأ رجل إلاَّ رجل غفر لَهُ، فالمستثنى مَحْذُوف لِأَن الْفِعْل لَا يَقع مُسْتَثْنى، أَو التَّقْدِير: لَا يتَوَضَّأ رجل فِي حَال إلاَّ فِي حَال الْمَغْفِرَة، فَيكون الِاسْتِثْنَاء من أَعم عَام الْأَحْوَال. قَوْله: (وَبَين الصَّلَاة) أَي: الَّتِي يَليهَا، كَمَا صرح بِهِ مُسلم فِي رِوَايَة هِشَام بن عُرْوَة قَوْله: (حَتَّى يُصليهَا) ، مَعْنَاهُ: حَتَّى يفرغ مِنْهَا. وَقَالَ بَعضهم: أَي يشرع فِي الصَّلَاة الثَّانِيَة. قلت: هَذَا معنى فَاسد، لِأَن قَوْله: (مَا بَينه وَبَين الصَّلَاة) يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ بَين الشُّرُوع فِي الصَّلَاة وَبَين الْفَرَاغ عَنْهَا وَلما كَانَ المُرَاد الْفَرَاغ عَنْهَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَحَتَّى يُصليهَا) وَلِهَذَا لم يكتف بقوله (بَين الصَّلَاة) لِأَنَّهُ لَا يُغني عَن ذكر حَتَّى يُصليهَا، لما ذكرنَا. فَإِن قلت: لَفْظَة: حَتَّى، غَايَة لماذا؟ قلت: لحصل الْمُقدر الْعَامِل فِي الظّرْف إِذْ الغفران لَا غَايَة لَهُ. قَوْله: (قَالَ عُرْوَة الْآيَة) أَرَادَ أَن الْآيَة فِي سُورَة الْبَقَرَة إِلَى قَوْله: {اللاعنون} (الْبَقَرَة: 159) كَمَا صرح بِهِ مُسلم، وَقد روى عَن مَالك هَذَا الحَدِيث فِي (الْمُوَطَّأ) عَن هِشَام بن عُرْوَة، وَلم يَقع فِي رِوَايَته تعْيين الْآيَة، فَقَالَ من قبل نَفسه أرَاهُ يُرِيد {أقِم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار وَزلفًا من اللَّيْل إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات} (هود: 114) .
بَيَان استنباط الاحكام الأول: فِيهِ أَن الْفَرْض على الْعَالم تَبْلِيغ مَا عِنْده من الْعلم، لِأَن الله تَعَالَى قد توعد الَّذين يكتمون مَا أنزل الله باللعنة، وَالْآيَة، وَإِن كَانَت نزلت فِي أهل الْكتاب، وَلَكِن الْعبْرَة لعُمُوم اللَّفْظ لَا لخُصُوص السَّبَب، فَدخل فِيهَا كل من علم علما تعبد الله الْعباد بمعرفته لزمَه من عدم تبليغه مَا لزم أهل الْكتاب مِنْهُ. الثَّانِي: فِيهِ أَن الْإِخْلَاص لله تَعَالَى فِي الْعِبَادَة وَترك الشّغل بِأَسْبَاب الدُّنْيَا يُوجب من الله عَلَيْهِ الغفران ويتقبلها من عَبده. الثَّالِث: فِيهِ أَن ظَاهر الحَدِيث على أَن الْمَغْفِرَة الْمَذْكُورَة لَا تحصل إلاَّ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُور وإحسانه وَالصَّلَاة فِي (الصَّحِيح) من حَدِيث ابي هُرَيْرَة: (إِذا تَوَضَّأ العَبْد الْمُسلم خرجت خطاياه) ، فَفِيهِ أَن الْخَطَايَا تخرج من أول الْوضُوء حَتَّى يفرغ من الْوضُوء نقياً من الذُّنُوب، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر الصَّلَاة، فَيحْتَمل أَن يحمل حَدِيث ابي هُرَيْرَة عَلَيْهَا، لَكِن يبعده أَن فِي رِوَايَة لمُسلم من حَدِيث عُثْمَان: (وَكَانَت صلَاته ومشيه إِلَى الْمَسْجِد نَافِلَة) ، وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك باخْتلَاف الْأَشْخَاص، فشخص يحصل لَهُ ذَلِك عِنْد الْوضُوء، وَآخر عِنْد تَمام الصَّلَاة. الرَّابِع: أَن المُرَاد بِهَذَا وَأَمْثَاله غفران الصَّغَائِر، كَمَا مر فِيمَا مضى وَجَاء فِي (صَحِيح) مُسلم: (مَا من امرىء مُسلم تحضره صَلَاة مَكْتُوبَة فَيحسن وضوءها وخضوعها وخشوعها وركوعها، إلاَّ كَانَت كَفَّارَة لما قبلهَا من الذُّنُوب مَا لم يُؤْت كَبِيرَة) . وَفِي الحَدِيث الآخر (والصلوات الْخمس وَالْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة ورمضان إِلَى رَمَضَان مكفرات لما بَينهُنَّ إِذْ اجْتنبت الْكَبَائِر) لَا يُقَال إِذا كفر الْوضُوء فَمَاذَا تكفر الصَّلَاة، وَإِذا كفرت الصَّلَاة فَمَاذَا تكفر الْجُمُعَات ورمضان؟ وَكَذَا صِيَام عَرَفَة يكفر سنتَيْن، وَيَوْم عَاشُورَاء كَفَّارَة سنة، وَإِذا وَافق تأمينة تَأْمِين الْمَلَائِكَة غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه، لِأَن المُرَاد: أَن كل وَاحِد من هَذِه الْمَذْكُورَات صَالح للتكفير، فَإِن وجد مَا يكفره من الصَّغَائِر كفره، وَإِن لم يُصَادف صَغِيرَة كتبت لَهُ حَسَنَات وَرفعت لَهُ دَرَجَات، وَإِن صَادف كَبِيرَة أَو كَبَائِر وَلم يُصَادف صَغِيرَة رجى أَن يُخَفف مِنْهَا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: رجونا أَن يُخَفف من الْكَبَائِر. وَالله تَعَالَى أعلم.
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الاستنثار فِي الْوضُوء، والاستنثار استفعال من النثر، بالنُّون والثاء الْمُثَلَّثَة، وَالْمرَاد بِهِ الِاسْتِنْشَاق، وَقد بسطنا الْكَلَام فِيهِ فِي الْبَاب الَّذِي قبله.
وَوجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب بعض الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول.
ذكَرَهُ عثْمانُ وعَبْدُ اللَّهِ بنُ زَيْدٍ وابنُ عَباس رَضِي اللَّهُ عَنْهُمْ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: ذكر الاستنثار فِي الْوضُوء عُثْمَان بن عَفَّان وَعبد الله بن زيد بن عَاصِم وَعبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَالْمعْنَى أَن هَؤُلَاءِ رووا الاستنثار فِي الْوضُوء. أما الَّذِي رَوَاهُ عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فقد أخرجه مَوْصُولا فِي الْبَاب الَّذِي