الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَأْمِرُهُ فِيها فَقَالَ يَا رسولَ الله إنِّي أصَبْتُ أرْضاً بِخَيْبَرَ لَمْ أُصَبْ مَالا قَطُّ أنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ فَما تَأْمُرُنِي بِهِ قَالَ إنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أصْلَهَا وتَصَدَّقْتَ بِهَا قَالَ فتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أنَّهُ لاَ يُبَاعُ ولاَ يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ وتَصَدَّقَ بِهَا فِي الفُقَرَاءِ وَفِي القُرْبى وَفِي الرَّقَابِ وَفِي سَبِيلِ الله وابنِ السَّبِيلِ والضَّيْفِ لاَ جُنَاحَ علَى مَنْ وَلِيهَا أنْ يَأكُلَ مِنْها بِالْمَعْرُوفِ ويُطْعمَ غَيْرَ مُتَمَوِّل قَالَ فَحَدَّثْتُ بِهِ ابنِ سِيرِينَ فَقَالَ غَيْرَ مُتأثِّل مَالا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَول عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَنه لَا يُبَاع) إِلَى آخِره. وَمُحَمّد بن عبد الله وَابْن عون هُوَ عبد الله بن عون الْبَصْرِيّ. قَوْله: (أنبأني نَافِع) ، أَي: أَخْبرنِي، وَقيل: الإنباء يُطلق على الْإِجَازَة أَيْضا.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي الْوَصَايَا أَيْضا عَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد، وَأخرجه مُسلم فِي الْوَصَايَا عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الأحباس عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بِهِ، وَعَن هَارُون بن عبد الله وَعَن مُحَمَّد بن الْمُصَفّى بن بهْلُول.
قَوْله: (يستأمره) ، أَي: يستشيره. قَوْله: (أصبت أَرضًا بِخَيْبَر) ، وَاسم تِلْكَ الأَرْض: ثمغ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَسُكُون الْمِيم وبالغين الْمُعْجَمَة. قَوْله: (أنفس عِنْدِي مِنْهُ) أَي: أَجود وأعجب مِنْهُ. قَوْله: (وَفِي الْقُرْبَى) ، الْقَرَابَة فِي الرَّحِم. وَهُوَ فِي الأَصْل مصدر تَقول: بيني وَبَينه قرَابَة وَقرب وقربى ومقربة وقربة وقربة، بِضَم الرَّاء وسكونها. قَوْله: (وَفِي الرّقاب) ، أَي: فِي فك الرّقاب، وهم المكاتبون يدْفع إِلَيْهِم شَيْء من الْوَقْف تفك بِهِ رقابهم، وَكَذَلِكَ لَهُم نصيب فِي الزَّكَاة. قَوْله: (وَفِي سَبِيل الله) ، هُوَ مُنْقَطع الْحَاج ومنقطع الْغُزَاة. قَوْله: (وَابْن السَّبِيل) ، وَهُوَ الَّذِي لَهُ مَال فِي بلد لَا يصل إِلَيْهَا وَهُوَ فَقير. قَوْله: (والضيف) ، من عطف الْخَاص على الْعَام، قَوْله: (لَا جُناح) أَي: لَا إِثْم. (على من وَليهَا) ، أَي: من ولي التحدث على تِلْكَ الأَرْض (أَن يَأْكُل مِنْهَا) أَي: من ريعها (بِالْمَعْرُوفِ) أَي: بِحَسب مَا يحْتَمل ريع الْوَقْف على الْوَجْه الْمُعْتَاد. قَوْله: (وَيطْعم) بِالنّصب عطف على: أَن يَأْكُل. قَوْله: (غير مُتَمَوّل) حَال من قَوْله: من وَليهَا، أَي: أكله وإطعامه لَا يكون على وَجه التمول، بل لَا يتَجَاوَز الْمُعْتَاد. قَوْله: (فَحدثت بِهِ ابْن سِيرِين) .
أَي: قَالَ ابْن عون: فَحدثت بِهَذَا الحَدِيث مُحَمَّد بن سِيرِين: (فَقَالَ: غير متأثل مَالا) أَي: غير جَامع مَالا، يُقَال: مَال مؤثل، بالثاء الْمُثَلَّثَة الْمُشَدّدَة، أَي: مَجْمُوع ذُو أصل، وأثلة الشَّيْء: أَصله.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ الْجُمْهُور وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد على جَوَاز الْوَقْف، وَلَا خلاف بَينهم فِي جَوَاز الْوَقْف فِي حق وجوب التَّصَدُّق بِمَا يحصل من الْوَقْف مَا دَامَ الْوَاقِف حَيا، حَتَّى أَن من وقف دَاره أَو أرضه يلْزمه التَّصَدُّق بغلَّة الدَّار وَالْأَرْض، وَيكون ذَلِك بِمَنْزِلَة النّذر بالغلة، وَلَا خلاف أَيْضا فِي جَوَازه فِي حق زَوَال ملك الرَّقَبَة إِذا إتصل بِهِ قَضَاء القَاضِي، أَو أَضَافَهُ إِلَى مَا بعد الْمَوْت بِأَن قَالَ: إِذا مت فقد جعلت دَاري أَو أرضي وفقاً على كَذَا، أَو قَالَ: هُوَ وقف فِي حَياتِي، صَدَقَة بعد وفاتي. وَاخْتلفُوا فِي جَوَازه مزيلاً لملك الرَّقَبَة إِذا لم تُوجد الْإِضَافَة إِلَى مَا بعد الْمَوْت، وَلَا اتَّصل بِهِ حكم حَاكم، فَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجوز حَتَّى كَانَ للْوَاقِف بيع الْمَوْقُوف وهبته، وَإِذا مَاتَ يصير مِيرَاثا لوَرثَته. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالْجُمْهُور: يجوز حَتَّى لَا يُبَاع وَلَا يُوهب وَلَا يُورث. وَفِيه: أَن الْوَقْف مَشْرُوع خلافًا للْقَاضِي شُرَيْح. وَفِيه: أَن الْوَقْف لَا يجوز بَيْعه وَلَا هِبته وَلَا يصير مِيرَاثا، لِأَنَّهُ صَار لله تَعَالَى، وَخرج عَن ملك الْوَاقِف: وَاخْتلفُوا، هَل يدْخل فِي ملك الْمَوْقُوف عَلَيْهِ أم لَا؟ فَقَالَ أَصْحَابنَا: لَا يدْخل، لكنه ينتقع بغلته بالتصدق عَلَيْهِ، لِأَن الْوَقْف حبس الأَصْل وَتصدق بالفرع، وَالْحَبْس لَا يُوجب ملك الْمَحْبُوس، وَعَن الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد: ينْتَقل إِلَى ملك الْمَوْقُوف عَلَيْهِ لَو كَانَ أَهلا لَهُ. وَعَن الشَّافِعِي، فِي قَول: ينْتَقل إِلَى الله تَعَالَى، وَهُوَ رِوَايَة عَن أَصْحَابنَا، وَعَن الشَّافِعِي: أَن الْملك فِي رَقَبَة الْوَقْف لله تَعَالَى، وَذكر صَاحب (التَّحْرِير) : أَنه إِذا كَانَ الْوَقْف على شخص، وَقُلْنَا: الْملك للْمَوْقُوف عَلَيْهِ، افْتقر إِلَى قَبضه كَالْهِبَةِ، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (الرَّوْضَة) : هَذَا غلط ظَاهر. وَفِيه: أَن الْوَقْف بِلَفْظ: حبست، بل الأَصْل هَذِه اللَّفْظَة، لِأَن الْوَقْف فِي اللُّغَة: الْحَبْس، وَفِي (الرَّوْضَة) : لَا يَصح الْوَقْف إِلَّا بِلَفْظ،