كل مِنْهُمَا مَوضِع الآخر، خُصُوصا عِنْد الْفُقَهَاء الوسوسة: حَدِيث النَّفس والأفكار، وَقد وسوست إِلَيْهِ نَفسه وَسْوَسَة ووسواساً بِالْكَسْرِ، وَهُوَ بِالْفَتْح الِاسْم، ووسوس إِذا تكلم بِكَلَام لم يُبينهُ، حَاصله أَن الوسوسة تردد الشَّيْء فِي النَّفس من غير أَن تطمئِن إِلَيْهِ وتستقر عِنْده. قَوْله: (مَا لم تعْمل) أَي: فِي العمليات (أَو تكلم) فِي القوليات. وَأما قَول ابْن الْعَرَبِيّ: إِن المُرَاد بقوله: مَا لم تكلم، الْكَلَام النَّفْسِيّ، إِذْ هُوَ الْكَلَام الْأَصْلِيّ وَأَن القَوْل الْحَقِيقِيّ هُوَ الْوُجُود بِالْقَلْبِ المواقف للْعلم، فَهُوَ مَرْدُود عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَه تعصباً لما حكى عَن مذْهبه من وُقُوع الطَّلَاق بالعزم، وَإِن لم يتَلَفَّظ. وَحَكَاهُ عَن رِوَايَة أَشهب عَن مَالك فِي الطَّلَاق وَالْعِتْق وَالنّذر أَنه يَكْفِي فِيهِ عزمه وَقَوله وجزمه فِي قلبه بِكَلَامِهِ النَّفْسِيّ الْحَقِيقِيّ، وَنصر ذَلِك بِأَن اللِّسَان معبر عَمَّا فِي الْقلب، فَمَا كَانَ يملكهُ الْوَاحِد كالنذر وَالطَّلَاق وَالْعتاق كفى فِيهِ عزمه، وَمَا كَانَ من التَّصَرُّفَات بَين اثْنَيْنِ لم يكن بُد من ظُهُور القَوْل، وَهَذَا فِي غَايَة الْبعد، وَقد نقضه الْخطابِيّ على قَائِله بالظهار وَغَيره، فأنهم أَجمعُوا على أَنه: لَو عزم على الظِّهَار لم يلْزمه حَتَّى يلفظ بِهِ، قَالَ: وَهُوَ فِي معنى الطَّلَاق، وَكَذَلِكَ لَو حدث نَفسه بِالْقَذْفِ لم يكن قذفا، وَلَو حدث نَفسه فِي الصَّلَاة لم يكن عَلَيْهِ إِعَادَة، وَقد حرم الله تَعَالَى الْكَلَام فِي الصَّلَاة، فَلَو كَانَ حَدِيث النَّفس فِي معنى الْكَلَام لكَانَتْ صلَاته تبطل، وَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِنِّي لأجهر جيشي وَأَنا فِي الصَّلَاة وَمِمَّنْ قَالَ بِأَن: طَلَاق النَّفس لَا يُؤثر، عَطاء بن أبي رَبَاح وَابْن سِيرِين وَالْحسن وَسَعِيد بن جُبَير وَالشعْبِيّ وَجَابِر بن زيد وَقَتَادَة وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن هَذِه الْمُجَاوزَة من خَصَائِص هَذِه الْأمة، وَأَن الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة يؤاخذون بذلك، وَقد اخْتلف: هَل كَانَ ذَلِك يُؤَاخذ بِهِ فِي أول الْإِسْلَام؟ ثمَّ نسخ وخفف ذَلِك عَنْهُم، أَو تَخْصِيص وَلَيْسَ بنسخ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله} (الْبَقَرَة: 482) . فقد قَالَ غير وَاحِد من الصَّحَابَة، مِنْهُم أَبُو هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس: إِنَّهَا مَنْسُوخَة، بقوله تَعَالَى: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} (الْبَقَرَة: 682) . فَإِن قيل: قَالُوا: من عزم على الْمعْصِيَة بِقَلْبِه، وَإِن لم يعملها، يُؤَاخذ عَلَيْهِ. وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَا شكّ أَن الْعَزْم على الْمعْصِيَة وَسَائِر الْأَعْمَال القلبية كالحسد ومحبة إِشَاعَة الْفَاحِشَة يُؤَاخذ عَلَيْهِ، لَكِن إِذا وطَّن نَفسه عَلَيْهِ، وَالَّذِي فِي الحَدِيث هُوَ: مَا لم يوطن عَلَيْهِ نَفسه وَإِنَّمَا أَمر ذَلِك بفكره من غير اسْتِقْرَار، وَيُسمى هَذَا هما، وَيفرق بَين الْهم والعزم. فَإِن قيل: الْمَفْهُوم من لفظ: مَا لم تعْمل، مشْعر بِأَن مَا فِي الصُّدُور موطناً وَغير موطن لَا يُؤَاخذ عَلَيْهِ. وَأجِيب: بِأَنَّهُ يجب الْحمل على غير الموطن جمعا بَينه وَبَين مَا يدل على الْمُؤَاخَذَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِن الَّذين يحبونَ أَن تشيع الْفَاحِشَة} (النُّور: 91) . وَأَيْضًا: لفظ الوسوسة لَا يسْتَعْمل إلاَّ عِنْد التَّرَدُّد والتزلزل. وَقَالَ عِيَاض: الهمّ مَا يمر فِي الْفِكر من غير اسْتِقْرَار وَلَا توطن، فَإِن اسْتمرّ وتوطن عَلَيْهِ عزماً يُؤَاخذ بِهِ أَو يُثَاب عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الَّذِي ذهب إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّة السّلف وَأهل الْعلم وَالْفُقَهَاء والمحدثين والمتكلمين، وَلَا يلْتَفت إِلَى من خالفهم فِي ذَلِك. فَزعم أَن مَا يهم بِهِ الْإِنْسَان وَإِن وَطن بِهِ لَا يُؤَاخذ بِهِ متمسكاً فِي ذَلِك بقوله تَعَالَى: {وَلَقَد هَمت بِهِ وهم بهَا} (يُوسُف: 42) . وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا لم تعْمل أَو تكلم، وَمن لم يعْمل بِمَا عزم عَلَيْهِ وَلَا نطق بِهِ، فَلَا. الْجَواب عَن و: الْآيَة أَن من الهمّ مَا يُؤَاخذ بِهِ الْإِنْسَان، وَهُوَ مَا اسْتَقر واستوطن، وَمِنْه مَا يكون أَحَادِيث لَا تَسْتَقِر، فَلَا يُؤَاخذ بهَا كَمَا شهد بِهِ الحَدِيث، وَالَّذِي يرفع الْإِشْكَال وَيبين المُرَاد حَدِيث أبي كَبْشَة عَمْرو بن سعد: سمع سيدنَا رَسُول الله لله ... فَذكر حَدِيثا فِيهِ: قَالَت الْمَلَائِكَة: ذَاك عَبدك يُرِيد أَن يعْمل سَيِّئَة وَهُوَ أبْصر بِهِ. وَزعم الطَّبَرِيّ أَن فِيهِ دلَالَة على أَن الْحفظَة يَكْتُبُونَ أَعمال الْقُلُوب خلافًا لمن قَالَ: لَا يكتبونها وَلَا يَكْتُبُونَ إلاَّ الْأَعْمَال الظَّاهِرَة، وَبِه اسْتدلَّ بَعضهم على أَنه إِذا كتب بِالطَّلَاق وَقع من قَوْله مَا لم يعْمل، وَالْكِتَابَة عمل، وَهُوَ قَول مُحَمَّد بن الْحسن وَأحمد بن حَنْبَل، وَشرط مَالك فِيهِ الْإِشْهَاد على الْكِتَابَة، وَجعله الشَّافِعِي كِنَايَة إِن نوى بِهِ الطَّلَاق وَقع، وإلاَّ فَلَا، وَفرض بَعضهم بَين أَن يَكْتُبهُ فِي بَيَاض كالرق وَالْوَرق واللوح، وَبَين أَن يَكْتُبهُ على الأَرْض فأوقعه فِي الأول دون الثَّانِي، وَفِيه نظر.

9252 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثيرٍ عنْ سُفْيانَ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ سَعيدٍ عَن مُحَمَّدِ بنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْكيِّ عنْ عَلْقَمَةَ بنِ وقَّاصٍ اللَّيْثِي قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبِيِّ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015