إِثْبَات ذَلِك الْقود الْمَنْفِيّ بِالسَّيْفِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: توجه النَّفْي إِلَى ذَات الْقود، لِأَن الْقود معنى من الْمعَانِي وَلَيْسَ لَهُ قيام إلاَّ بِالذَّاتِ، والذات لَا يتَوَجَّه إِلَيْهِ النَّفْي، وَلِهَذَا نقُول: الْمَنْفِيّ فِي قَوْلنَا إِنَّمَا زيد قَائِم، هُوَ اتصاف زيد بِالْقيامِ لَا ذَات زيد، لِأَن أنفس الذوات أَي: الْأَجْسَام، يمْتَنع نَفيهَا، كَا بَين ذَلِك فِي الطبيعيات.
فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا حَدِيث لم يثبت لَهُ إِسْنَاد، وَجَابِر الْجعْفِيّ مطعون فِيهِ. قلت: الْجعْفِيّ، وَإِن طعن فِيهِ، فقد قَالَ وَكِيع: مهما تشككتم فِيهِ فَلَا تَشكوا فِي أَن جَابِرا ثِقَة، وَقَالَ شُعْبَة: صَدُوق فِي الحَدِيث، وَقَالَ الثَّوْريّ لشعبة: لَئِن تَكَلَّمت فِي جَابر لتكلمت فِيك، وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي (الكاشف) : إِن ابْن حبَان أخرج لَهُ فِي (صَحِيحه) وَقد تَابع الثَّوْريّ أَيْضا قيس بن الرّبيع، كَمَا ذكرنَا فِي رِوَايَة الطَّيَالِسِيّ، وَقَالَ عَفَّان: كَانَ قيس ثِقَة وَثَّقَهُ الثَّوْريّ وَشعْبَة، وَقَالَ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ: هُوَ ثِقَة حسن الحَدِيث، ثمَّ إِنَّا، وَلَئِن سلمنَا مَا قَالَه الْبَيْهَقِيّ، فقد وجدنَا شَاهدا لحَدِيث النُّعْمَان الْمَذْكُور، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن المستمر حَدثنَا الْحر بن مَالك الْعَنْبَري حَدثنَا مبارك بن فضَالة عَن الْحسن عَن أبي بكرَة قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا قَود إلاَّ بِالسَّيْفِ، وَسَنَده جيد، وَابْن المستمر صَدُوق، كَذَا قَالَ النَّسَائِيّ، وَالْحر، قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي كِتَابه: سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: صَدُوق، وَالْمبَارك، وَإِن تكلم فِيهِ، فقد أخرج لَهُ البُخَارِيّ فِي المبايعات فِي: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخوف الله عباده بالكسوف، وَأخرج لَهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَوَثَّقَهُ، وَقَالَ عَفَّان: كَانَ ثِقَة، وَوَثَّقَهُ ابْن معِين مرّة وَضَعفه أُخْرَى، وَكَانَ يحيى الْقطَّان يحسن الثَّنَاء عَلَيْهِ، وَرُوِيَ أَيْضا نَحوه عَن أبي هُرَيْرَة، أخرجه الْبَيْهَقِيّ من (سنَنه) من حَدِيث ابْن مصفى: حَدثنَا بَقِيَّة حَدثنَا سُلَيْمَان عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا قَود إلاَّ بِالسَّيْفِ) ، ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ بَقِيَّة بن الْوَلِيد عَن أبي معَاذ هُوَ سُلَيْمَان بن أَرقم عَن الزُّهْرِيّ هَكَذَا، وَعَن أبي معَاذ عَن عبد الْكَرِيم بن أبي الْمخَارِق عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَا فود إلاَّ بسلاح) . وَرَوَاهُ مُعلى بن هِلَال عَن أبي أبي إِسْحَاق عَن عَاصِم بن ضَمرَة عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا قَود إلاَّ بحديدة) . وروى أَيْضا عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ عَن عبد الصَّمد بن عَليّ عَن الْفضل بن عَبَّاس عَن يحيى بن غيلَان عَن عبد الله بن بزيع عَن أبي شيبَة إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان عَن جَابر عَن أبي عَازِب عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الْقود بِالسَّيْفِ وَالْخَطَأ على الْعَاقِلَة) ، وَهَذَا الحَدِيث كَمَا رَأَيْت قد رُوِيَ عَن النُّعْمَان بن بشير وَأبي بكرَة وَأبي هُرَيْرَة وَعبد الله بن مَسْعُود وَعلي بن أبي طَالب وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَلَا شكّ أَن بَعْضهَا يشْهد لبَعض، وَأَقل أَحْوَاله أَن يكون حسنا، فَإِذا كَانَ حسن صَحَّ الِاحْتِجَاج بِهِ. .
وَأَجَابُوا عَن حَدِيث الْبَاب بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى أَن ذَلِك الْقَاتِل يجب قَتله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لله تَعَالَى إِذا كَانَ إِنَّمَا قتل على مَال، قد بَين ذَلِك فِي الحَدِيث الَّذِي فِيهِ الأوضاح، كَمَا يجب دم قَاطع الطَّرِيق صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لله تَعَالَى، فَكَأَن لَهُ أَن يقْتله كَيفَ شَاءَ، بِسيف أَو بِغَيْرِهِ، وَأَيْضًا رُوِيَ فِي هَذَا الحَدِيث، فِيمَا رَوَاهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد، أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِهِ أَن يرْجم حَتَّى يَمُوت، فرجم حَتَّى مَاتَ، وَقد مر عَن قريب، فَدلَّ ذَلِك أَن قتل الْقَاتِل لَا يتَعَيَّن أَن يكون بِمَا قتل بِهِ. وَجَوَاب آخر: أَن ذَلِك كَانَ حِين كَانَت الْمثلَة مُبَاحَة، كَمَا فعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالعرنيين، ثمَّ نسخت بعد ذَلِك، وَنهى عَنْهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَفِيه: إِيمَاء تِلْكَ الْجَارِيَة، وَاخْتلف الْعلمَاء فِي إِشَارَة الْمَرِيض، فَذهب اللَّيْث وَمَالك وَالشَّافِعِيّ إِلَى أَنه إِذا ثبتَتْ إِشَارَته على مَا يعرف من حَضَره جَازَت وَصيته، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري: إِذا سُئِلَ الْمَرِيض عَن الشَّيْء فَأَوْمأ بِرَأْسِهِ أَو بِيَدِهِ فَلَيْسَ بِشَيْء حَتَّى يتَكَلَّم. قَالَ أَبُو حنيفَة: وَإِنَّمَا تجوز إِشَارَة الْأَخْرَس أَو من لحقته سكتة لَا يتَكَلَّم، وَأما من اعتقل لِسَانه وَلم يَوْم بِهِ ذَلِك فَلَا تجوز إِشَارَته. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : قلت: الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ. قلت: لَو أدْرك مَا ذَكرْنَاهُ آنِفا لما اجترأ بإبراز هَذَا الْكَلَام، فَلَا يكثر مثل هَذَا على قَاصِر الْفَهم وفائت الْإِدْرَاك، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكتف بِإِشَارَة الْجَارِيَة فِي قتل الْيَهُودِيّ، وَإِنَّمَا قَتله باعترافه. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: من أطَاق الْإِبَانَة عَن نَفسه لم تكن إِشَارَته فِيمَا لَهُ أَو عَلَيْهِ وَاقعَة موقع الْكَلَام، لَكِن تقع موقع الدّلَالَة على مَا يُرَاد، لَا فِيمَا يُؤَدِّي إِلَى الحكم على إِنْسَان بِإِشَارَة غَيره، وَلَو كَانَ كَذَلِك لقبلت شَهَادَة الشَّاهِدين بِالْإِشَارَةِ والإيماء. وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: فِي هَذَا الحَدِيث حجَّة على أبي حنيفَة حَيْثُ لم يُوجب الْقصاص فِيمَن قتل بمثقل عمدا، وَإِنَّمَا يجب عِنْده دِيَة مُغَلّظَة، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ، وَخَالفهُ غَيره من الْأَئِمَّة: مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وجماهير الْعلمَاء، وَالْجَوَاب عَن هَذَا: أَن عَادَة ذَلِك الْيَهُودِيّ كَانَت قتل الصغار بذلك الطَّرِيق، فَكَانَ ساعياً فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ، فَقتل سياسة. واعترضوا بِأَنَّهُ لَو قتل