وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ المَاء قَلِيلا وَانْقطع بعد سقِِي الثَّانِي، وَقد صرح النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) : بِأَن المُرَاد بِالْأولِ الَّذِي يَلِي المَاء إلاَّ لمحيي الأول، فَقَالَ عِنْد ذكر حَدِيث الزبير: فَلصَاحِب الأَرْض الأولى الَّتِي تلِي المَاء الْمُبَاح أَن يحبس المَاء ويسقي أرضه إِلَى هَذَا الْحَد، ثمَّ يُرْسِلهُ إِلَى جَاره الَّذِي وَرَاءه. فَإِن قلت: مَا المُرَاد بقوله: ثمَّ أرسل المَاء إِلَى جَارك؟ فَهَل هُوَ مَا فضل عَن المَاء الَّذِي حَبسه أَو إرْسَال جَمِيع المَاء الْمَحْبُوس أَو غَيره بعد أَن يصل فِي أرضه إِلَى الْكَعْبَيْنِ؟ قلت: قَالَ شَيخنَا: الصَّحِيح الَّذِي ذكره أَصْحَاب الشَّافِعِي الأول، وَهُوَ قَول مطرف وَابْن الْمَاجشون من الْمَالِكِيَّة، وَاخْتَارَهُ ابْن وهب، وَقد كَانَ ابْن الْقَاسِم يَقُول: إِذا انْتهى المَاء فِي الْحَائِط إِلَى مِقْدَار الْكَعْبَيْنِ من الْقَائِم أرْسلهُ كُله إِلَى من تَحْتَهُ، وَلَا يحبس مِنْهُ شَيْئا فِي حَائِطه. قَالَ ابْن وهب: وَقَول مطرف وَابْن الْمَاجشون أحب إِلَيّ فِي ذَلِك، وهما أعلم بذلك، لِأَن الْمَدِينَة دارهما وَبهَا كَانَت الْقَضِيَّة وفيهَا جرى الْعَمَل بِالْحَدِيثِ. وَفِيه: حجَّة على مَا حُكيَ عَن أبي حنيفَة من أَن الْأَعْلَى لَا يقدم على الْأَسْفَل، وَإِنَّمَا يسقون بِقدر حصصهم، قَالَه بعض الشَّافِعِيَّة. قلت: هَذَا وَجه حَكَاهُ الرَّافِعِيّ عَن الداركي، وَلَيْسَ مُرَاد أبي حنيفَة من قَوْله: إِن الْأَعْلَى لَا يقدم على الْأَسْفَل، أَنه يخْتَص بِالْمَاءِ وَيحرم الْأَسْفَل، بل كلهم سَوَاء فِي الِاسْتِحْقَاق، غير أَن الأول يسْقِي ثمَّ الثَّانِي ثمَّ الثَّالِث وهلم جراً، وَالِانْتِفَاع فِي حق كل وَاحِد بِقدر أرضه، وَقدر حَاجته، فَيكون بِالْحِصَصِ. وَفِي (الْمُغنِي) لِابْنِ قدامَة: وَلَو كَانَ نهيراً صَغِيرا وسيل فتشاح أهل الْأَرْضين الشاربة عَنهُ، فَإِنَّهُ يبْدَأ بالأعلى ويسقي حَتَّى يبلغ الكعب، ثمَّ يُرْسل إِلَى الَّذِي يَلِيهِ كَذَلِك إِلَى انْتِهَاء الْأَرَاضِي، فَإِن لم يفضل عَن الأول شَيْء أَو الثَّانِي أَو الثَّالِث لَا شَيْء للباقين، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُم إلاَّ مَا فضل فهم كالعصبة فِي الْمِيرَاث، وَهَذَا قَول فُقَهَاء الْمَدِينَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ، وَلَا نعلم فِيهِ مُخَالفا، وَالْأَصْل فِيهِ حَدِيث الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي حَدِيث الْبَاب: إِن الأولى بِالْمَاءِ الْجَارِي الأول فَالْأول حَتَّى يَسْتَوْفِي حَاجته، وَهَذَا مَا لم يكن أَصله ملكا للأسفل مُخْتَصًّا بِهِ، فَإِن كَانَ ملكه فَلَيْسَ للأعلى أَن يشرب مِنْهُ شَيْئا وَإِن كَانَ يمر عَلَيْهِ. وَفِيه: الِاكْتِفَاء للخصوم بِمَا يفهم عَنْهُم مقصودهم أَن لَا يكلفوا النَّص على الدعاوي وَلَا تَحْرِير الْمُدعى فِيهِ وَلَا حصره بِجَمِيعِ صِفَاته. وَفِيه: إرشاد الْحَاكِم إِلَى الْإِصْلَاح، وَقَالَ ابْن التِّين: مَذْهَب الْجُمْهُور أَن القَاضِي يُشِير بِالصُّلْحِ إِذا رَآهُ مصلحَة، وَمنع ذَلِك مَالك، وَعَن الشَّافِعِي فِي ذَلِك خلاف، وَالصَّحِيح جَوَازه. وَفِيه: أَن للْحَاكِم أَن يستوعي لكل وَاحِد من المتخاصمين حَقه إِذا لم يَرَ قبولاً مِنْهُمَا للصلح وَلَا رضى بِمَا أَشَارَ بِهِ كَمَا فعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: توبيخ من جَفا على الإِمَام وَالْحَاكِم ومعاقبته لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عاقبه بِمَا قَالَ، بِأَن استوعى للزبير حَقه، ووبخه الله تَعَالَى فِي كِتَابه بِأَن نفى عَنْهُم الْإِيمَان حَتَّى يرْضوا بالحكم فَقَالَ: {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ ... } (النِّسَاء: 56) . الْآيَة. وَقيل: وَقعت عُقُوبَته فِي مَاله وَقد كَانَت تقع الْعُقُوبَات فِي الْأَمْوَال، كأمره بشق الزقاق وَكسر الجرار عِنْد تَحْرِيم الْخمر، تَغْلِيظًا للتَّحْرِيم. وَفِيه: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكم على الْأنْصَارِيّ فِي حَال غَضَبه مَعَ نَهْيه أَن يحكم الحكم وَهُوَ غَضْبَان، لِأَنَّهُ يُفَارق غَيره من الْبشر، إِذْ الْعِصْمَة قَائِمَة فِي حَقه فِي حَال الرِّضَا والسخط أَن لَا يَقُول إلاَّ حَقًا. وَفِيه: دَلِيل أَن للْإِمَام أَن يعْفُو عَن التَّعْزِير، كَمَا لَهُ أَن يقيمه.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ العَبَّاسِ قَالَ أبُو عَبْدِ الله: لَيْسَ أحَدٌ يَذْكرُ عُرْوَةَ عنْ عَبْدِ الله إلاَّ اللَّيْثُ فَقَطْ
هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْحَمَوِيّ وَحده عَن الْفربرِي، وَلم يَقع هَذَا فِي رِوَايَة غَيره، وَمُحَمّد بن الْعَبَّاس السّلمِيّ الْأَصْبَهَانِيّ، وَهُوَ من أَقْرَان البُخَارِيّ وَتَأَخر بعده، مَاتَ سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، يَعْنِي: هُوَ الَّذِي صرح بتفرد اللَّيْث بِذكر عبد الله بن الزبير فِي إِسْنَاده، وَفِيه نظر، لِأَن ابْن وهب روى عَن اللَّيْث وَيُونُس جَمِيعًا عَن ابْن شهَاب: أَن عُرْوَة حَدثهُ عَن أَخِيه عبد الله بن الزبير بن الْعَوام، أخرجه النَّسَائِيّ، وَذكر الْحميدِي فِي (جمعه) : أَن الشَّيْخَيْنِ أَخْرجَاهُ من طَرِيق عُرْوَة عَن أَخِيه عبد الله عَن أَبِيه، وَفِيه نظر أَيْضا، لِأَنَّهُ بِهَذَا السِّيَاق فِي رِوَايَة يُونُس الْمَذْكُور، وَلم يُخرجهَا من أَصْحَاب الْكتب السِّتَّة إِلَّا النَّسَائِيّ كَمَا ذكرنَا وَالله أعلم، وَمِنْه الْمَنّ علينا.
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم شرب الْأَعْلَى قبل الْأَسْفَل، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ والكشميهني: قبل السفلي، قَالَ بَعضهم: وَالْأول