بَدْرًا لانْتِفَاء النِّفَاق عَمَّن شهد بَدْرًا، وَأما قَوْله: من الْأَنْصَار، فَيحمل على الْمَعْنى اللّغَوِيّ، يَعْنِي: مِمَّن كَانَ ينصر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا بِمَعْنى أَنه كَانَ من الْأَنْصَار الْمَشْهُورين، وَقد أجَاب التوربشتي عَن هَذَا بقوله: قد اجترأ جمع بِنِسْبَة هَذَا الرجل إِلَى النِّفَاق وَهُوَ بَاطِل، إِذْ كَونه أَنْصَارِيًّا وصف مدح، وَالسَّلَف احترزوا أَن يطلقوا على من اتهمَ بالنفاق الْأنْصَارِيّ، فَالْأولى أَن يُقَال: هَذَا قَول أزله الشَّيْطَان فِيهِ عِنْد الْغَضَب، وَلَا يستبدع من الْبشر الِابْتِلَاء بأمثال ذَلِك. قلت: هَذَا اعْتِرَاف مِنْهُ أَن الَّذِي خَاصم الزبير هُوَ حَاطِب، وَلكنه أبطل اتصافه بالنفاق، واعتراف مِنْهُ أَنه أَنْصَارِي، وَلَيْسَ بِأَنْصَارِيِّ إلاَّ إِذا حملنَا ذَلِك على الْمَعْنى الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا.
وَقد سَمَّاهُ الواحدي فِي (أَسبَاب النُّزُول) وَقَالَ: إِنَّه حَاطِب بن أبي بلتعة، وَكَذَا سَمَّاهُ مُحَمَّد بن الْحسن النقاش ومكي والمهدوي، ورد عَلَيْهِم بِأَن حَاطِبًا مُهَاجِرِي وَلَيْسَ من الْأَنْصَار، وَلَكِن يحسن حمله على الْمَعْنى الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَقَالَ الواحدي: وَقيل: إِنَّه ثَعْلَبَة بن حَاطِب، وَقَالَ ابْن بشكوال فِي (المبهمات) ؛ وَقَالَ شَيخنَا أَبُو الْحسن مغيث مرَارًا: إِنَّه ثَابت بن قيس بن شماس، قَالَ: وَلم يَأْتِ على ذَلِك بِشَاهِد ذكره.
وَذكر أَبُو بكر بن الْمقري فِي (مُعْجَمه) من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة: أَن حميدا رجلا من الْأَنْصَار خَاصم الزبير فِي شراج الْحرَّة ... الحَدِيث. قَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ: هَذَا حَدِيث صَحِيح لَهُ طرق وَلَا أعلم فِي شَيْء مِنْهَا ذكر حميد إلاَّ فِي هَذِه الطَّرِيق. وَقَالَ: حميد، بِضَم الْحَاء وَفِي آخِره دَال مُهْملَة. قلت: روى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق سعيد بن عبد الْعَزِيز عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب، سمعته من الزُّهْرِيّ: {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ} (النِّسَاء: 56) . الْآيَة، قَالَ: نزلت فِي الزبير بن الْعَوام وحاطب بن أبي بلتعة اخْتَصمَا فِي مَاء ... الحَدِيث، فَهَذَا إِسْنَاده قوي، وَإِن كَانَ مُرْسلا، وَإِن كَانَ ابْن الْمسيب سَمعه من الزبير يكون مَوْصُولا فَهَذَا يُقَوي قَول من قَالَ: إِن الَّذِي خَاصم الزبير حَاطِب بن أبي بلتعة، وَهُوَ بَدْرِي وَلَيْسَ من الْأَنْصَار. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ الْعلمَاء: لَو صدر مثل هَذَا الْكَلَام الْيَوْم من إِنْسَان جرت على قَائِله أَحْكَام الْمُرْتَدين فَيجب قَتله بِشَرْطِهِ، قَالُوا: وَأما ترك النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهُ كَانَ فِي أول الْإِسْلَام يتألف النَّاس وَيدْفَع بِالَّتِي هِيَ أحسن ويصبر على أَذَى الْمُنَافِقين الَّذين فِي قُلُوبهم مرض.
وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: فَلَمَّا خرجا يَعْنِي: الزبير وحاطباً مرا على الْمِقْدَاد، فَقَالَ: لمن كَانَ الْقَضَاء يَا أَبَا بلتعة؟ فَقَالَ: قضى لِابْنِ عمته، ولوى شدقه، فطن لَهُ يَهُودِيّ كَانَ مَعَ الْمِقْدَاد فَقَالَ: قَاتل الله هَؤُلَاءِ، يشْهدُونَ أَنه رَسُول الله ثمَّ يَتَّهِمُونَهُ فِي قَضَاء يقْضِي بَينهم، وأيم الله! لقد أَذْنَبْنَا مرّة فِي حَيَاة مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَدَعَانَا مُوسَى إِلَى التَّوْبَة مِنْهُ، فَقَالَ: اقْتُلُوا أَنفسكُم، فَقَتَلْنَا، فَبلغ قَتْلَانَا سبعين ألفا فِي رَبنَا حَتَّى رَضِي عَنَّا. قلت: هَذَا مَوضِع تَأمل.
قَوْله: (فِي شراج الْحرَّة) ، الشراج، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الرَّاء وَفِي آخِره جِيم، قيل: هُوَ وَاحِد، وَقيل: هُوَ جمع شرج، مثل: رهن ورهان وبحر وبحار. وَفِي (الْمُنْتَهى) لأبي الْمعَانِي: الشرج مسيل المَاء من الْحزن إِلَى السهل، وَالْجمع شراج وشروج وشرج، وَقيل: الشرج جمع شراج والشراج جمع شرج. وَفِي (الْمُحكم) : وَيجمع على أشراج، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: شريج الْحرَّة، وَإِنَّمَا أضيف إِلَى الْحرَّة لكَونهَا فِيهَا. وَقَالَ الدَّاودِيّ: الشراج نهر عِنْد الْحرَّة بِالْمَدِينَةِ، وَهَذَا غَرِيب وَلَيْسَ بِالْمَدِينَةِ نهر، والحرة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء: من الأَرْض الصلبة الغليظة الَّتِي أفنيتها كلهَا حِجَارَة سود نخرة، كَأَنَّهَا مطرَت، وَالْجمع: حرات وحرار، وَفِي (مثلث) ابْن سَيّده: وَيجمع أَيْضا على حرون، وبالمدينة حرتان: حرَّة واقم وحرة لبلى، زَاد ابْن عديس فِي (الْمثنى والمثلث) : وحرة الْحَوْض من الْمَدِينَة والعقيق، وحرة قبا فِي قبْلَة الْمَدِينَة، وَزَاد ياقوت: وحرة الْوَبرَة بِالتَّحْرِيكِ، وأوله وَاو بعْدهَا بَاء مُوَحدَة، على أَمْيَال من الْمَدِينَة، وحرة النَّار قرب الْمَدِينَة. قَوْله: (الَّتِي يسقون بهَا) ، وَفِي رِوَايَة شُعَيْب: كَانَا يسقيان بِهِ كِلَاهُمَا. قَوْله: (سرح المَاء) ، أَمر من التسريح: أَي: أرْسلهُ وسيِّبه، وَمِنْه: سرحوا المَاء فِي الخَنْدَق. قَوْله: (يمر) ، جملَة وَقعت حَالا من المَاء، وَقَالَ بَعضهم: وَضبط الْكرْمَانِي: فَأمره، بِكَسْر الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء على أَنه فعل أَمر من الإمرار. قَالَ: وَهُوَ مُحْتَمل. قلت: لم أرَ ذَلِك فِي شرح الْكرْمَانِي، فَإِن كَانَت النّسخ مُخْتَلفَة فَلَا يبعد. قَوْله: (فَأبى عَلَيْهِ) ، أَي: امْتنع الزبير على الَّذِي خاصمه من إرْسَال المَاء، وَإِنَّمَا قَالَ الْأنْصَارِيّ ذَلِك لِأَن المَاء كَانَ يمر بِأَرْض الزبير قبل أَرض الْأنْصَارِيّ فحبسه لإكمال سقِِي أرضه، ثمَّ يُرْسِلهُ إِلَى أَرض جَاره، فالتمس مِنْهُ الْأنْصَارِيّ تَعْجِيل ذَلِك فَأبى عَلَيْهِ. قَوْله: (إسق يَا زبير) ، بِكَسْر الْهمزَة: من سقى يسْقِي، من بَاب ضرب يضْرب، وَحكى ابْن التِّين بِفَتْح الْهمزَة