سَيفي فَلم يزَالُوا بِهِ حَتَّى أخرج الصَّحِيفَة فَإِذا فِيهَا) فَذكر الحَدِيث وَزَاد فِيهِ: (الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ وَيسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُم وهم يَد على من سواهُم، ألاَّ لَا يقتل مُؤمن بكافرٍ، وَلَا ذُو عهد فِي عَهده، وَقَالَ فِيهِ: إِن إِبْرَاهِيم حرَّم، وَإِنِّي أحرم مَا بَين حرتيها، وحماها كُله لَا يخْتَلى خَلاهَا، وَلَا ينفر صيدها وَلَا تلْتَقط لقطتهَا، وَلَا تقطع مِنْهَا شَجَرَة إلاَّ أَن يعلف رجل بعيره، وَلَا يحمل فِيهَا السِّلَاح لقِتَال) . وَالْبَاقِي نَحوه. وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من وَجه آخر عَن قَتَادَة عَن أبي حسان عَن الأشتر عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن الْحسن (عَن قيس بن عباد، قَالَ: انْطَلَقت أَنا وَالْأَشْتَر إِلَى عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقُلْنَا: هَل عهد إِلَيْك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا لم يعهده إِلَى النَّاس عَامَّة؟ قَالَ: لَا، إلاَّ مَا فِي كتابي هَذَا. قَالَ: وَكتاب فِي قرَاب سَيْفه، فَإِذا فِيهِ: الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ) ، فَذكر مثل مَا تقدم إِلَى قَوْله: (فِي عَهده: من أحدث حَدثا) إِلَى قَوْله: (أَجْمَعِينَ) ، وَلم يذكر بَقِيَّة الحَدِيث، وروى مُسلم من طَرِيق أبي الطُّفَيْل: (كنت عِنْد عَليّ فَأَتَاهُ رجل، فَقَالَ: مَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسر إِلَيْك؟ فَغَضب، ثمَّ قَالَ: مَا كَانَ يسر إليَّ شَيْئا يَكْتُمهُ عَن النَّاس، غير أَنه حَدثنِي بِكَلِمَات أَربع) وَفِي رِوَايَة لَهُ: (مَا خصنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِشَيْء لم يعم بِهِ النَّاس كَافَّة، إلاَّ مَا كَانَ فِي قرَاب سَيفي هَذَا، فَأخْرج صحيفَة مَكْتُوب فِيهَا: لعن الله من ذبح لغير الله، وَلعن الله من سرق منار الأَرْض، وَلعن الله من لعن وَالِده، وَلعن الله من آوى مُحدثا) . وَقد تقدم فِي كتاب الْعلم من طَرِيق أبي جُحَيْفَة. (قلت لعَلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: هَل عنْدكُمْ كتاب؟ قَالَ: لَا، إلاَّ كتاب الله. .) الحَدِيث. فَإِن قلت: كَيفَ وَجه الْجمع بَين هَذِه الْأَخْبَار؟ قلت: وَجه ذَلِك أَن الصَّحِيفَة الْمَذْكُورَة كَانَت مُشْتَمِلَة على مَجْمُوع مَا ذكر، فَنقل كل من الروَاة بَعْضهَا، وأتمها سياقا طَرِيق أبي حسان كَمَا ترى. وَالله أعلم. قَوْله: (الْمَدِينَة حرم) ، بِفتْحَتَيْنِ أَي: مُحرمَة لَا تنتهك حرمتهَا. قَوْله: (مَا بَين عائر إِلَى كَذَا) ، وعائر بِالْعينِ الْمُهْملَة وَالْألف والهمزة وَالرَّاء، وَهُوَ جبل بِالْمَدِينَةِ، ويروى: (مَا بَين عير) ، بِدُونِ الْألف. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض أَكثر رُوَاة البُخَارِيّ ذكرُوا (عيرًا) ، وَأما ثَوْر فَمنهمْ من كنى عَنهُ بِلَفْظ كَذَا، وَمِنْهُم من ترك مَكَانَهُ بَيَاضًا. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً فِي أول: بَاب حرم الْمَدِينَة. قَوْله: (من أحدث فِيهَا) ، أَي: فِي الْمَدِينَة، وَرِوَايَة قيس بن عباد الَّتِي تقدّمت تفِيد بِهَذَا لِأَن ذَلِك مُخْتَصّ بِالْمَدِينَةِ لفضلها وشرفها. قَوْله: (أَو آوى) بِالْقصرِ وَالْمدّ فِي الْفِعْل اللَّازِم والمتعدي جَمِيعًا، لَكِن الْقصر فِي اللَّازِم وَالْمدّ فِي الْمُتَعَدِّي أشهر. قَوْله: (مُحدثا) قد ذكرنَا أَن فِيهِ فتح الدَّال وَكسرهَا، فَالْمَعْنى بِالْفَتْح أَي: الْمُحدث فِي أَمر الدّين وَالسّنة، وَمعنى الْكسر صَاحبه الَّذِي أحدثه أَو جَاءَ ببدعة فِي الدّين أَو بدل سنة. وَقَالَ التَّيْمِيّ: يَعْنِي من ظلم فِيهَا أَو أعَان ظَالِما. قَوْله: (صرف) أَي: فَرِيضَة. (وَعدل) أَي: نَافِلَة. وَقَالَ الْحسن: الصّرْف النَّافِلَة، وَالْعدْل الْفَرِيضَة، عكس قَول الْجُمْهُور. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الصّرْف التَّوْبَة وَالْعدْل الْفِدْيَة. قَالُوا: مَعْنَاهُ لَا تقبل قبُول رضى، وَإِن قبلت قبُول جَزَاء، وَعَن أبي عُبَيْدَة الصّرْف الِاكْتِسَاب وَالْعدْل الْحِيلَة، وَقيل: الصّرْف الدِّيَة وَالْعدْل الزِّيَادَة عَلَيْهَا، وَقيل بِالْعَكْسِ، وَفِي (الْمُحكم) : الصّرْف الْوَزْن وَالْعدْل الْكَيْل، وَقيل: الصّرْف الْقيمَة وَالْعدْل الاسْتقَامَة، وَقيل: الصّرْف الشَّفَاعَة وَالْعدْل الْفِدْيَة، وَبِه جزم الْبَيْضَاوِيّ، وَقيل: الْقبُول بِمَعْنى تَكْفِير الذَّنب بهما، وَقَالَ عِيَاض: وَقد يكون معنى الْفِدْيَة هُنَا لِأَنَّهُ لَا يجد فِي الْقِيَامَة فدَاء يفتدى بِهِ، بِخِلَاف غَيره من المذنبين الَّذين يتفضل الله عز وَجل على من يَشَاء مِنْهُم بِأَنَّهُ يفْدِيه من النَّار بِيَهُودِيٍّ أَو نَصْرَانِيّ كَمَا ثَبت فِي (الصَّحِيح) . قَوْله: (ذمَّة الْمُسلمين) أَي: عَهدهم وأمانهم صَحِيح، فَإِذا آمن الْكَافِر وَاحِد من الْمُسلمين حرم على غَيره التَّعَرُّض لَهُ، وَنقض ذمَّته، وللأمان شُرُوط مَذْكُورَة فِي كتب الْفِقْه. قَوْله: (فَمن أَخْفَر مُسلما) أَي: نقض عَهده، يُقَال: خفرت الرجل بِغَيْر ألف إِذا آمنته، وأخفرته إِذا نقضت عَهده، فالهمزة للإزالة، وَقد علم فِي علم الصّرْف أَن الْهمزَة فِي: أفعل تَأتي لمعان: مِنْهَا: أَنَّهَا تَأتي للسلب، يَعْنِي لسلب الْفَاعِل من الْمَفْعُول أصل الْفِعْل نَحْو أشكيته؟ أَي: أزالت شكايته، والهمزة فِي: أَخْفَر، من هَذَا الْقَبِيل. قَوْله: (وَمن تولى قوما) أَي: من اتخذهم أَوْلِيَاء. قَوْله: (بِغَيْر إِذن موَالِيه) ، لَيْسَ بِشَرْط، لتقييد الحكم بِعَدَمِ الْإِذْن وقصره عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِيرَاد الْكَلَام على مَا هُوَ الْغَالِب، وَقَالَ الْخطابِيّ: لم يَجْعَل إِذن الموَالِي شرطا فِي ادِّعَاء نسب أَو وَلَاء، لَيْسَ هُوَ مِنْهُ، وَإِلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذكر الْإِذْن فِي هَذَا تَأْكِيدًا للتَّحْرِيم لِأَنَّهُ إِذا استأذنهم فِي ذَلِك منعُوهُ وحالوا بَينه وَبَين مَا يفعل من ذَلِك، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (وَذمَّة الْمُسلمين وَاحِدَة يسْعَى بهَا أَدْنَاهُم، وَمن ادّعى إِلَى غير أَبِيه أَو انْتَمَى إِلَى غير موَالِيه فَعَلَيهِ لعنة الله) .