للْوَاقِع، وَالْحق بِالنّظرِ إِلَى الْوَاقِع المطابق لِلْقَوْلِ. قلت: قد يُقَال أَيْضا: قَول ثَابت ثمَّ إنَّهُمَا متلازمان. قَوْله: (وَالْجنَّة حق وَالنَّار حق) فِيهِ الْإِقْرَار بهما وبالأنبياء، وَقَالَ ابْن التِّين: فِيهِ ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن خَبره بذلك لَا يدْخلهُ كذب وَلَا تَغْيِير. ثَانِيهَا: أَن خبر من أخبر عَنهُ بذلك وبلغه حق. ثَالِثهَا: أَنَّهُمَا قد خلقتا. قَوْله: (والنبيون حق) ، بِأَنَّهُم من عِنْد الله. قَوْله: (وَمُحَمّد حق) ، إِنَّمَا خص مُحَمَّدًا من النَّبِيين، وَإِن كَانَ دَاخِلا فيهم، وَعطفه عَلَيْهِم إِيذَانًا بالتغاير، وَأَنه فائق عَلَيْهِم بأوصاف مُخْتَصَّة بِهِ، فَإِن تغير الْوَصْف ينزل منزلَة تَغْيِير الذَّات، ثمَّ جرده عَن ذَاته كَأَنَّهُ غَيره، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَان بِهِ وتصديقه، وَهَذَا مُبَالغَة فِي إِثْبَات نبوته، كَمَا فِي التَّشَهُّد. قَوْله: (والساعة حق) أَي: يَوْم الْقِيَامَة، وأصل السَّاعَة: الْقطعَة من الزَّمَان، ثمَّ أطلق على يَوْم الْقِيَامَة فَصَارَ إسما لَهَا، وَتَأْتِي الْوُجُوه الْمَذْكُورَة فِيهَا، وَوجه ذَلِك أَنه لما لم يكن هُنَاكَ شمس وَلَا قمر وَلَا كواكب يقدر بهَا الزَّمَان وَسميت بالساعة فَإِن قلت: مَا وَجه إِطْلَاق إسم الْحق على مَا ذكر من الْأُمُور؟ وَمَا وَجه تكْرَار لفظ الْحق؟ قلت: أما وَجه الْإِطْلَاق فللإيذان بِأَنَّهُ لَا بُد من كَونهَا، وَأَنَّهَا مِمَّا يجب أَن يصدق بهَا، وَأما وَجه التّكْرَار فللمبالغة فِي التَّأْكِيد، والتكرير يَسْتَدْعِي التَّقْرِير. قَوْله: (أللهم لَك أسلمت) أَي: انقدت وخضعت لأمرك ونهيك، واستسلمت لجَمِيع مَا أمرت بِهِ ونهيت عَنهُ. قَوْله: (وَبِك آمَنت) أَي: صدقت بك وَبِمَا أنزت من أَخْبَار وَأمر وَنهي، فَظَاهره أَن الْإِيمَان لَيْسَ بِحَقِيقَة الْإِسْلَام وَإِنَّمَا الْإِيمَان التَّصْدِيق. وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر: الْإِيمَان الْمعرفَة بِاللَّه، وَالْأول أشهر فِي كَلَام الْعَرَب. قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا أَنْت بِمُؤْمِن لنا} (يُوسُف: 71) . أَي: بمصدق إلاّ أَن الْإِسْلَام إِذا كَانَ بِمَعْنى الانقياد وَالطَّاعَة فقد ينقاد الْمُكَلف بِالْإِيمَان فَيكون مُؤمنا مُسلما وَقد يكون مُصدقا فِي بعض الْأَحْوَال دون بعض فَيكون مُسلما لامؤمنا وَقَالَ الْخطابِيّ الْمُسلم قد يكون مُؤمنا فِي بعض الْأَحْوَال دون بعض، وَالْمُؤمن مُسلم فِي جَمِيع الْأَحْوَال، فَكل مُؤمن مُسلم، وَلَيْسَ كل مُسلم مُؤمنا. قلت: الْبَحْث فِيهِ دَقِيق وَقد اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي كتاب الْإِيمَان. قَوْله: (وَعَلَيْك توكلت) أَي: فوضت الْأَمر إِلَيْك قَاطعا للنَّظَر عَن الْأَسْبَاب العادية، وَيُقَال: أَي: تبرأت من الْحول وَالْقُوَّة وصرفت أَمْرِي إِلَيْك، وأيقنت أَنه لن يُصِيبنِي إلاّ مَا كتب لي وَعلي، ففوضت أَمْرِي إِلَيْك، ونِعْمَ الْمُفَوض إِلَيْهِ. قَالَ الْفراء: الْوَكِيل الْكَافِي. قَوْله: (وَإِلَيْك أنبت) أَي: رجعت إِلَيْك فِي تَدْبِير أَمْرِي، والإنابة الرُّجُوع أَي: رجعت إِلَيْك مُقبلا بِالْقَلْبِ عَلَيْك، وَمَعْنَاهُ: رجعت إِلَى عبادتك. قَوْله: (وَبِك خَاصَمت) أَي: وَبِمَا أَعْطَيْتنِي من الْبُرْهَان والسنان خَاصَمت المعاند وقمعته بِالْحجَّةِ وَالسيف. قَوْله: (وَإِلَيْك حاكمت) أَي: كل من جحد الْحق حاكمته إِلَيْك وجعلتك الْحَاكِم بيني وَبَينه، لَا غَيْرك مِمَّا كَانَت تحاكم إِلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة من صنم وكاهن ونار وَنَحْو ذَلِك، والمحاكمة: رفع الْقَضِيَّة إِلَى الْحَاكِم. وَقيل: ظَاهره أَن لَا يحاكمهم إلاّ الله وَلَا يرضى إِلَّا بِحكمِهِ. قَالَ الله تَعَالَى: {رَبنَا افْتَحْ بَيْننَا وَبَين قَومنَا بِالْحَقِّ وَأَنت خير الفاتحين} (الْأَعْرَاف: 98) . وَقَالَ: {أفغير الله ابْتغى حكما} (الأنعما: 411) . ثمَّ من قَوْله: (لَك أسلمت) إِلَى قَوْله: (وَإِلَيْك حاكمت) قدم صَلَاة الْأَفْعَال الْمَذْكُورَة فِيهِ للإشعار بالتخصيص وإفادة الْحصْر، وَكَذَلِكَ فِي قَوْله: (وَلَك الْحَمد) فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع فَافْهَم. قَوْله: (فَاغْفِر لي مَا قدمت وَمَا أخرت) إِنَّمَا قَالَ ذَلِك، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَعَ أَنه مغْفُور لَهُ لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: للتواضع وهضم النَّفس والإجلال لله تَعَالَى والتعظيم لَهُ عز وَجل. الثَّانِي: للتعليم لأمته ليقتدوا بِهِ فِي أصل الدُّعَاء والخضوع وَحسن التضرع وَالرَّغْبَة والرهبة، وَالْمَغْفِرَة: تَغْطِيَة الذَّنب وكل مَا غطى فقد غفر وَمِنْه: المغفر. قَوْله: (وَمَا قدمت) أَي: قبل هَذَا الْوَقْت (وَمَا أخرت) ، عَنهُ أَمر الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، بالإشفاق وَالدُّعَاء إِلَى الله تَعَالَى وَالرَّغْبَة إِلَيْهِ أَن يغْفر مَا يكون من غَفلَة تعتري الْبشر، وَمَا قدم: مَا مضى، وَمَا أخر: مَا يسْتَقْبل، وَذَلِكَ مثل قَوْله تَعَالَى: {ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} (الْفَتْح: 2) . وَقَالَ أهل التَّفْسِير: الغفران فِي حَقه يتَنَاوَل من أَفعاله الْمَاضِي والمستقبل. قَوْله: (وَمَا أسررت) أَي: وَمَا أخفيت. (وَمَا أعلنت) أَي: وَمَا أظهرت أَو الْمَعْنى: مَا حدثت بِهِ نَفسِي وَمَا تحرّك بِهِ لساني، وَفِي (التَّوْحِيد) زَاد من طَرِيق ابْن جريج عَن سلمَان: (وَمَا أَنْت أعلم بِهِ مني) ، وَهُوَ من عطف الْعَام بعد الْخَاص. قَوْله: (أَنْت الْمُقدم وَأَنت الْمُؤخر) قَالَ ابْن التِّين: أَنْت الأول وَأَنت الآخر. وَقَالَ ابْن بطال يَعْنِي: أَنه قدم فِي البعص إِلَى النَّاس على غَيره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله: (نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ) ، ثمَّ قدمه عَلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة بالشفاعة بِمَا فَضله بِهِ على سَائِر الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَسبق بذلك الرُّسُل.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا الحَدِيث من جَوَامِع الْكَلم، إِذْ لفظ: الْقيم إِشَارَة إِلَى أَن وجود الْجَوْهَر وقوامه مِنْهُ والنور إِلَى أَن الْإِعْرَاض مِنْهُ، وَالْملك لما أَنه